وهذه حاله [عزَّ و]تقدس عند إمكان ذلك، فتعالى من عزيز ما أعطفه، وجليل ما ألطفه، وجبار ما أرأفه، فإن أراد أن الباري تعالى رازق في الأزل على [معنى] أن ثمَّ مرزوقاً [ورزقاً]، فذلك ما لا يذهب إليه قائل بالعدل والتوحيد، عارف بالواحد المجيد.
وقوله: بأنه سبحانه جوادٌ إذاً راجع إلى التحقيق، صفة من صفات الفعل وقد تستعمل ويراد بها الاستقبال، كما يقال: السلطان غالب لبني فلان وقاتل لهم، إذا كان ذلك معلوما من حاله وحالهم، وإن لم يكن الغلب والقتل واقعين في الحال بل هما منتظران في المآل، ويقال: فلان سخي جواد، إذاً كان المعلوم من حاله أنه عند إمكان ذلك يعطي السائل [ويشبع] النائل وإن لم [يكن] في الحال فاعلاً، فوصفنا للباري تعالى بأنه جواد قبل وجود الموجود عليه والمرزوق والرزق نريد به هذا المعنى، وقد علمنا أن العقلاء يصفون الواحد منا بالكرم والجود وإن لم [يكن] يعطي السائل [والنائل]، إذا كان ذلك لمانع من عدم المسؤول، ونحوه إذا كانوا يعلمون إنه إذا وجد وأمكن ذلك المسئول جاد وأعطى، وإنما وصفوه بذلك لعلمهم بما قدمنا، بدليل أنهم لولم يعلموا ذلك لما وصفوه بالكرم والجود، بل يصفونه بالبخل إذ البخيل عندهم من إذا سئل ما يمكنه مما يحسن أعطاه لم يعطه، والكريم عندهم من ذكرنا، فوصفنا للباري سبحانه بذلك أولى وأحرى لعلمنا أنه يعطي عند حسن الإعطاء بلا من، ولا حساب، ولا مكيال، ولا ميزان، لا يضن على المحتاجين، ولا يخيب رجاء الراجين، فعلى هذا المعنى نصف الله تعالى بأنه جواد في جميع الحالات وصفاً لا ينتهي فيه إلى حاجز ولا رادع، بل نطلق القول بذلك إطلاقا، وقد يقال: فلان جواد، ومنعم، ورازق، إذا كان رازقاً في الحال منعماً جايداً، فإن وصف الباري بالمعنى الأول صاغ ذلك لما قدمنا على ما قدمنا، وإن وصف بالمعنى الثاني لم يجز إجراء ذلك عليه في الأزل لاستحالة وجود الرزق والمرزوق في الأزل؛ لأن وجود ذلك في الأزل يخرج الرزق(1/263)


عن كونه رزقاً، والمرزوق عن كونه مرزوقاً، والرازق عن كونه رازقاً في الحال، ويوجب الجميع للإلهية، ويذهب عن الباري تعالى الوحدانية، والأدلة العقلية والسمعية باطلة ببطلان ذلك، وبطلان ما أدى إليه.
هذا القدر من الكلام في هذه المسألة كافٍ لمن أنصف نفسه، وملك عقله، ونبذ رأي الهوى وراء ظهره، وجعل طلب السلامة نصب عينيه، وقد تقدم الجواب عمَّا لزم في الفصل المقدر زماناً في موضعه فلا معنى لإعادته.(1/264)


المسألة السادسة والثلاثون [ هل يصح أن يقال أن يستحق الله صفة لم تكن أزلية؟ ]
قال تولى الله هدايته: وهل يجوز فيما لم يزل قبل إيجاد المحدث بالفضل الذي تقديره زماناً إن وجب ذلك الفضل كان لا منعماً ولا رازقاً ولا خالقاً فيقع الإمساك عن الفعل فيما لم يزل إلى أن أنعم وخلق ورزق، فيحدث استحقاق الصفة بحدوث الفعل باستحداث المنعم عليه المرزوق وحدوث الصفة أو ينفي عن القديم القدم أفتنا يرحمك الله؟.
الجواب: قد بيَّنا في المسألة التي قبل هذه كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة، وأنها تطلق على معنيين: أحدهما - يجوز إطلاقه عليه سبحانه أزلاً وأبدا، والثانيلا يجوز إطلاقه، وما ذكره في هذه المسألة قد أتينا على جميعه في المسألة التي قبلها، لكنه لما دعا مثنى كررنا التلبية، وقد بيَّنا الكلام في الفصل في موضعه.
وقوله: هل يجوز أن يكون فيما لم يزل قبل إيجاد المحدث إلى آخر قوله؟ قول لا يستقيم؛ لأنه قال قبل إيجاد المحدث: هل كان غير منعم؛ ومعلوم أن النعمة تستدعي منعماً عليه، لأن حد النعمة هي المنفعة الحسنة التي يقصد بها موصلها وجه الإحسان إلى من وصلت إليه، فلا بد من موصل وموصل إليه، ولا يكون المنعم عليه إلا محدثا لقيام الدلالة على غنى القديم تعالى، ووجود المحدث في الأزل يستحيل لما في ذلك من التنافي وخروج الموصوف عن صفة ذاته، فقد ثبت أنه لا منعم عليه في الأزل؛ إذ لا يستحيل، إذ لا موجود في الأزل سواه تعالى، ولو كان معه موجود لاستغنى كما وجب ذلك للباري سبحانه.(1/265)


فعلى هذا يجب أن يكون تعالى قبل إيجاد الموجودات غير منعم ولا رازق ولا موجود بالمعنى الثاني من المعنيين الأولين من المسألة الأولى، إلى أن أوجد وأنعم ورزق؛ لاستحالة وجود النعمة والمنعم عليه في الأزل، فلا معنى لقوله: هل يجوز إلى آخر كلامه، ولكن لا ينبغي أن تطلق هذه الألفاظ على الله تعالى لإيهامها تعريه عن صفات الكمال التي هي القدرة والجود والغنى، فإن حصلت قرينة جاز إجراء ذلك عليه سبحانه؛ لأن القرينة ترفع الإشكال وتكشف الإيهام، وما قاله من أن حدوث النعمة والمنعم عليه توجب حدوث الصفة ويبقى قدمها قول غير محصل؛ لأن الصفة ليست بذات مميزةٍ فتوصف بحدوث أو قدم، وإنما هي مزية بعلم الذات عليها؛ لأنها لو كانت ذاتاً مميزة لم يخل إما أن تكون موجودة أو معدومة؛ والموجودة إما محدثة أو قديمة؛ والمحدثة إما متحيزة أو غير متحيزة، ولا يجوز أن تكون الصفة واحدة مما ذكرنا من الأقسام لاستحالة أن تكون ذاتاً، لأن القول بأنها ذات يؤدي إلى جهالات، منها إيصال ذلك بما لا يتناهى، وموضع تقرير هذا وتحقيقه أصول الدين، فإن كان قد أخذ بحظه من ذلك وإلا فهو في أوانه قبل إحياء السؤال في موقف الحساب، فلا معنى لقوله بحدوث الصفة أو قدمها، وقد بينا في المسألة الأولى أن إطلاق هذه الصفة -أعني صفة المنعم والجواد- قد يفيد من يقدر على ذلك أو يعلم من حاله أنه يفعل وإن لم يكن في الحال فاعلاً.
فعلى هذا يجوز إطلاق ذلك على الباري سبحانه أزلاً وأبداً، وليس لقائل أن يقول: إن ذلك يوهم أن معه سبحانه في الأزل موجوداً؛ لأن من عرف الباري عز وجل وقدرته وعلمه وكمال توحيده ارتفع عنه هذا الإيهام، ومن لم يعرفه لم يناظر في هذه المسألة.(1/266)


ونقلنا الكلام معه إلى إثبات ذاته تعالى أولاً، وما يجب لها من الصفات ثانياً، لأن الكلام فيما يجب في الذات فرع على العلم بها، وعلى أناَّ قد بيّنا أن إطلاق ذلك لا يحتمل ما ذكره إلا باللفظ المحتمل، إذا أطلقه العاقل لم يسبق إلى أفهام العقلاء المستحيل منه، بل يحملونه على الممكن، وقد يقال فيه تعالى: إنه رازق وجواد ومنعم؛ ويراد بذلك وجود الرزق والجود والنعمة من جهته وهذا غير ثابت له سبحانه في الأزل، وهو وصف إضافي يستدعي وجود المرزوق والمجود عليه والمنعم عليه، ووجودها في الأزل مستحيل كما قدمنا، وليس بمقيد لصفة وحاله يرجع إلى ذاته تعالى، فهذه فتواك عما سألت أرشدك الله .(1/267)

53 / 92
ع
En
A+
A-