المسألة الثانية والثلاثون [ في قدم الإرادة وانتقال مقاصدها ]
قال تولى الله هدايته: وهل إذا توجهت الإرادة مع صفة قدمها إلى إيقاع مراد وحصل وجوده تمسك عند إكماله على حسب ما أراده الإله تعالى، ويتوجه إلى سواه، فيحصل انتقال المقصودات، وكيف يصح القصد بالمدد ثم التنقل أو الإمساك والانتقال مع كونها موصوفة حقيقة القديم وكلها تجدد حالات؟.(1/258)
فصل
اعلم أن أكثر هذا الكلام مسترسل في مأزق تدحض فيه الأقدام، وتختلس الأرواح، وتهتصر الأجسام، وذلك غير جيد سيما لمن نصب نفسه للاعتراض، ومراشقة الأعراض، انظر إلى ذكر التوجه والإمساك، والإيقاع، وإضافة ذلك كله إلى الإرادة، أثبت ذلك أم لا؟ وله أخوات هذه [الكلمات من] المسألة وغيرها، سلك فيها مسلك التجَّوز في موضع يحتاج فيه إلى تحقيق الحقائق، وتدقيق الدقائق، لو ولي جوابه من هو أقل احتمالاً مناَّ من فرسان الكلام لشدد عليه مجارح الإلزام، لكناّ قد ألزمنا نفوسنا تخريج كلامه، ووعدنا وعداً لا بد من تمامه.
الجواب: قد بينا حقيقة ما نذهب إليه من الإرادة، وما ذكره غير لازم لنا، على ما نذهب إليه، وما ذكر إن لزم فإنما يلزم المجبرة والقائلين بعدم الإرادة، ويمنعنا من الإجابة عنهم وإيراد تشككاتهم، وما يمكن أن يتعلقوا به قول الله تعالى: ?وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا?[النساء:105].(1/259)
المسألة الثالثة والثلاثون [ في القصد والإرادة ]
قال تولى الله هدايته: هل إن وجب تخصيصها بالامتياز لتميز القصد من سواه عند إيجاد المرادات المتنافية والمتفاضل، في آن واحد يكون إرادات كل مراد بتخصيص إيجاد إرادة قاصده لإيجاده دون ضده، والمنافي له في الذات، والحكم على حقيقته ما يتخصص به من الأحكام والتفاصيل الحادثة الاقتران بالإرادة، أو تكون التفاصيل غير حادثة عن الإرادة فتكون إرادات شتى قديمة مماثلة، والقديم لا نظير له ولا مثل، وهل يصح أن يكون تعالى مريداً بتلك الإرادة القديمة التي هي واحدة في وقت، وذلك عندما نقصد الإيجاد، وفي آخر تلك الإرادة التي أراد بها الإيجاد هي بعينها التي بها أثر الإمساك عن العقل، أو الإعدام، أو العدم، وهو ما تقديره زماناً لم يصح فيه إيجاد، وهو الحكم الذي يوصف به تعالى أنه لم يرد ثم أراد، فتكون الإرادة المتوجهة إلى الإمساك هي بعينها الإرادة المتوجهة إلى الفعل معاً، فيكون ما قدمناه في السؤالات من كونه مريداً للضدين معاً، وكذلك المتنافيين، وبتوجه القصد الإيجاد عندما يريد للإيجاد تخصصاً، ثم تتوجه وهي واحدة إلى الإمساك تخصصاً عندما يريد الإمساك، فيتنافى القصد، وفي منافاة الأحكام والمقاصد جواز الاعتبار، والتنقل من قصد إلى قصد ليقع التخصيص، والاعتبار يبطل القدم؟.
الجواب: الذي ذكره يلزم المجبرة القائلين بعدم الإرادة، ويلزم أيضا مماثلتها للقديم سبحانه كما قدمنا، ويلزمهم وجود الإرادة لشيء مع كونه كارهاً لمرادها الذي هو ذلك الشيء كما نعلمه في الشرائع المنسوخة، وليس إلى المناضلة عنهم والمحاجة عليهم داع، وهل يكون لناصر الباطل أجر كلا، بل يحوز حوباً ووزراً، ولعمري أن ذلك لنا صارف قوي عن القيام في وجه سؤاله، والتحشير لجداله ونضاله.(1/260)
المسألة الرابعة والثلاثون[ هل يصح أن يكون الله تعالى لا مريداً فيما تقديره تقدير الزمان؟ ]
قال تولى الله هدايته: وهل يصح أن يكون لا مريداً فيما تقديره تقدير الزمان، أو حين ما هو الوقت الذي لم يرد فيه اتباع الفعل لإيجاد مراد إلى أن أراد فحصل المراد موجوداً كما [مثلنا] شاء وأراد، فيلزم المدد والفتور مع صفة القديم، أو توجه الإرادة مدد فيما لم يزل مع ارتفاع الشرط والموانع، فيقتضي ذلك حصول المراد معاً والإمداد والإمساك يحيلان صفة القدم كما تقدم في السؤالات، أو يقوم دليل قاطع لعلائق التشكيلات على بيان الحكم في ذلك؟.
الجواب: وهذه المسألة الجواب عنها لازم للمجبرة القائلين بقدم الإرادة ومن رأى رأيهم، ونحن من ذلك بمعزل، وقد أوضحنا قولنا في هذه المسألة إيضاحا يكشف عن صحة اعتقادنا بما قدمنا من الأدلة الواضحة، والبراهين الراجحة، والأمثال اللائحة، ونصبناها في ميدان الامتحان، وجعلناها دربة للطعان، بحيث لا تزحزح أركانها، ولا يتقوض بنيانها، بمن الله وعونه وهدايته وبمنه.(1/261)
المسألة الخامسة والثلاثون [ هل كان الله رازقاً منعماً فيما لم يزل؟ ]
قال تولى الله هدايته: استحقاق [صفة] كونه جواداً فيما لم يزل يبيح أنه تعالى واهب رازق منعم، فهل كان رازقاً منعماً فيما لم يزل، فيقتضي ذلك تضايف المنعم عليه المرزوق منه لاستحالة الرجوع بهذه الصفة على ذاته، بأن يكون منعماً رازقاً أو منعماً عليه مرزوقاً، لأن المُنعَم عليه المرزوق غير غني عن المنعِم الرازق، فيكون مهما جاز ذلك غنياً بكونه رازقاً منعِماً ولا غنياً بكونه منعَماً عليه مرزوقاً، فيحصل تمانع الصفتين بالإثبات والنفي معاً، أو فلا يكون رازقاً [ولا] منعما فيما لم يزل إن كان لا وجود لمغير معه فيما لم يزل، ولا يجوز ذلك في حق ذاته، فما الوجه في كونه منعماً رازقاً فيما لم يزل تبع هي التضايف، والإلزام كون المنعم عليه المرزوق موجوداً كما تقدم السؤال في الفصل المقدر زماناً؟.
الجواب: هذه الصفة التي هي كونه جواداً ثابتة له عز وجل أزلاً وأبداً، على معنى أنه لا منعم على الحقيقة فيما لم يزال سواه؛ لأن أصول النعم وفروعها من عنده سبحانه، وليس كونه جواداً يقتضي كونه رازقاً معطياً في وقت يستحيل فيه وجود الرزق والمرزوق، ومعلوم أن وجودهما في الأزل محال؛ لأن أحدهما لا يكون نعمة والآخر منعماً عليه، والمنعم عليه الباري سبحانه أولى من أن يكون [هو] منعماً على الباري، بل لا تنفصل النعمة من المنعم ولا من المنعم عليه لاشتراكهما في القدم الذي هو مقتضى صفة الذات الذي الشركة فيه توجب الشركة في سائر المقتضيات، فتجب المماثلة، وذلك يرفع التمييز والفصل، وكل ذلك باطل، والجواد هو الذي إذا سئل ما يحسن إيصاله إلى السائل أعطاه، ويسد الخلة وإن لم يسأل، ويغفر الزلة لمن زل، ويضاعف الجزاء على قليل العمل، ويعين الضعيف، ويجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء.(1/262)