المسألة الثامنة والعشرون [ هل أحدث الله إرادته وهل يوصف الشيء بما لم يحدثه؟ ]
قال تولى الله هدايته: وهل هي إن ادَّعى حدثها يكون محدثها الله تبارك وتعالى أو سواه، فإن يكون سواه أحدثها، فكيف يصح أن يوصف بما أحدثه سواه حتى يكون مريداً، وإن يكن هو محدثها فكيف يصح أن توصف ذاته بأعيان محدثاته، وإنما يوصف بالإيجاد دون الأعيان ؟.
الجواب عندنا: إنه لا يجوز أن يكون محدثها سواه تعالى، وأنه لابد من أن يحدثها القديم سبحانه؛ لأجل أن كل قادر سواه لا يقدر على الاختراع، وهو أن يوجد الفعل ابتداءً لا في محل قدرته، لكونه قادراً لقدرة، ووجود الإرادة لا في محل لا يصح إلا على جهة الاختراع، ولا يقدر على الاختراع إلا الله سبحانه لكونه قادراً لذاته، فلزمه ألا يقدر على إيجاد الإرادة في غير محل إلا هو سبحانه، فأما قوله: كيف توصف الذات بما أحدثه غيره؟ فذلك غير مستحيل، كما أنا نصف الواحد منا بأنه موجود وبأنه عالم بالضروريات، وإن كان الموجد له والفاعل للعلم [الضروري] فيه الله سبحانه، فقد رأيت كيف وصِفَ بما فعله غيره ووجوب الصفة له لأجل فعل غيره، فقد بطل القول بأنه لا يجوز أن يوصف بما فعله غيره، وإن كانت إرادة الباري تعالى عندنا لا تجوز أن يكون فاعلها سواه لما قدمنا.
وأما صحة وصف ذاته بأعيان محدثاته، إذا لم تكن الصفة ذاتية وكانت معنوية، فلا مانع من ذلك وهو شائع فلا معنى لإنكاره، ألا ترى أن الواحد منا يقف كونه عالماً بعلمه استدلالاً على علم يوجده، وكذلك كونه مريداً على إرادة يحدثها، فهلا جاز في الباري تقدس مثله، وهو أن يكون مريداً بإرادة يحدثها، وقد قامت الأدلة على ذلك وجه لمخالفته.(1/253)


المسألة التاسعة والعشرون [ هل أحدث الله إرادته بإرادة أخرى ]
قال تولى الله هدايته: وأيضاً فإن كان هو يحدثها، فهل أحدثها بإرادة أخرى سبقت ومرّ إلى التسلسل، أو أحدثها ولا إرادة، فيحصل عنه إحداث مراد ولا إرادة؟
الجواب: الإرادة عندنا جنس الفعل وليست بمراد فلا يحتاج إلى إرادة أخرى؛ لأن الإرادة إنما يحتاج إليها في وقوع الفعل على وجه دون وجه، كالخبر مثلاً عن زيد بن عبد الله وزيد بن خالد فإنه لا يقع على أحد الوجهين إلا بإرادة كذلك، لأنها حاصلة على سبيل التبع للمراد، بمعنى أن ما دعا إلى المراد يدعو إلى الإرادة به، فلو لزم ذلك في الباري سبحانه للزم في الواحد منا؛ لأن ثبوت الإرادة له سبحانه ولنا على سواء، ومعلوم أن الواحد منا لا بد أن يكون مريداً بإرادة من فعله لولا ذلك لما تميز أمره من تهديده ولا أقسام كلامها بعضها من بعض، وإنما قلنا: يجب أن تكون من فعله لاستحالة أن يكون مريداً بإرادة من فعل غيره؛ لأن [الغير] إما قادر لذاته فهو الله تعالى، ولا يجوز أن يكون الواحد منَّا مريداً بإرادة من فعل الله سبحانه، لأن الواحد منَّا يريد القبيح كما يريد الحسن، فلا يجوز أن يفعل إرادة القبيح، لأنها تكون قبيحة والله سبحانه لا يفعل القبيح وذلك لا يجوز، وإرادة الحسن واقفة على داعيه وما يكون [موجوداً] من جهة غير الفاعل، فلا يقف على دواعيه، وهذا الدليل يبطل القول بأن الواحد منَّا مريدٌ بإرادة من جهة غيره سواءً كان المراد حسناً أو قبيحاً، وسواءً كان الفاعل لها فيه القديم سبحانه أو غيره، وإذا كان المغير قادر بقدرة ولا يوجد في غيره إلا بالاعتماد، والاعتماد لا تأثير له في حصول الإرادة، لأن الواحد منَّا لو اعتمد على صدر غيره لما حصل ذلك له إرادة، فنفى أن الواحد مناَّ مريدٌ بإرادة من فعله، ولا يلزم أن يوجد ما لا نهاية له من الإرادات، فكذلك الباري تعالى، لأنهما صفتان مستحقتان لمعنى محدث، فما لزم في إحداهما لزم(1/254)


في الأخرى، وما انفصل عن إحداهما انفصل عن الأخرى، وقد ثبت انفصال الإلزام في الواحد مناَّ، ولهذا فإنه إذا أكل فلا بد من أن يريد الأكل، ولا يلزم أن يريد إرادة الأكل لما لم تكن مقصودة بنفسها، بل إنما يقع على طريق التبع للمراد وكذلك في الباري تعالى.(1/255)


المسألة الثلاثون [ استطراد على المسألة التي قبلها ]
قال تولى الله هدايته: ثم نردُّ السؤال إلى القديم، وهو هل إرادته تعالى على حكم قدمها مع توجهها إلى إظهار المرادات يتخصص بتخصص أعيان المرادات لمتميز بالإيجاد، لكون التخصيصات وأعيان الموجودات إنما ينفصل أعيانها مخصصة بأحكام ما هي عليه من ذات ولوازم بأن الله سبحانه هو مفصِّلها متميزة بإرادته، والإرادة متوجهة لإيجاد الأعيان على تفاصيلها عموماً، لتوجهها لأحد المتنافيين توجهاً عاماً لا يخصص إيجاد أحدهما دون الآخر؟.
الجواب: قد دخل الجواب على الذي فرعه على كون الإرادة قديمة تحت كلامنا في أنها لا يجوز أن تكون قديمة فلا وجه لإعادته، ولو كانت قديمة، فما أنكر من قول من يذهب فيها مذهبنا في العلم وتعلقه، وتخصيصه فلا يلزم ما ذكره من التخصيص لمثل ما ذكرنا في جوابنا عما لزم من تخصيص العلم بتخصيص المعلوم.(1/256)


المسألة الحادية والثلاثون [ في القدم والإرادة أيضاً ]
قال تولى الله هدايته: هل إذا وجب العموم [وهو] أن يكون توجهها عاماً لا يتميز بالتخصيص لإيقاع التخصيصات يتعلق قصدها بإيجاد الضدين معاً في حيّز واحد من الجسم، فكيف يصح ذلك مع تابعهما ولم يتخصص بوجه الإرادة إلى إيجاد أحدهما مميزاً بعينه دون الآخر؟.
الجواب: جميع ما ذكر من توابع القدم في هذه المسألة وفي ما قبلها وبعدها يترتب على كون الإرادة قديمة، وقد قدّمنا بطلان كونها قديمة، وبيناَّ حدثها وكيفية حدثها فيما تقدم بياناً شافياً، فإذا بطل قدمها بطل ما فرعه عليه تبعاً له، لكون ذلك أصلاً في ثبوته، فإذا تكلمنا في شيء من ذلك فعلى جهة الإيضاح والكشف، فلمن ذهب إلى قدمها أن يقول: إن العموم لا يلزم في الإرادة؛ لأنها لا تعلق إلا بما يعلم المريد أو يعتقد أو يظن صحة حدوثه دونما يعلم استحالة حدوثه، والقديم سبحانه عالم بأن وجود الضدين معاً في حيز واحد مستحيل، فكيف يلزم ما ذكره من إرادته أو وجود الضدين كالبياض والسواد مثلاً في محل واحد، مع أن علمه باستحالة ذلك يمنع من صحة كونه مريداً له، وهذا وإن كنا لا نرتضيه، إلا أنا أوردناه في معرض الامتحان.(1/257)

51 / 92
ع
En
A+
A-