المسألة الرابعة والعشرون [ في قيام الإرادة بالذات ]
قال تولى الله هدايته: هل إذا حصل لنا الاعتبار الصادق وحقيقتين كما حصل لنا من اللون والمتلون حقيقتين ليست إحداهما الأخرى وليس اللون متجرداً في الوجود عن المتلون بل في الاعتبار فقط، وكذلك إرادتنا، فإذا وجبت ذات وإرادة بكون كل واحدة منهما قائمة بنفسها غنية في وجودها عن الأخرى أو إحداهما في حكم وجودها قائمة بنفسها مفتقرة في وجودها إلى الأخرى، أو تكافيا الحكم في فقد كل واحدة منهما مع قيامها بذاتها إلى الأخرى أو إحداهما مفتقر في وجودها إلى الأخرى وقائمة بها، ونفرض أن تلك هي حقيقة الإرادة فتكون قائمة بالذات إذ لا يصح ذلك في الذات؟(1/248)


الجواب: قد حصل لنا الاعتبار الصادق حقيقتين، وهما الإرادة والمريد كما قدمنا في المسألة الأولى ولا يصح تمثلهما باللون والمتلون، لأن اللون مستحيل وجوده لا في متلون، لأنه يؤدي إلى خروجه عما هو عليه في ذاته من حيث أن مقتضى صفة ذاته هي أن تكون هيئة للمحل، فكيف يجوز وجوده لا في محل، وقد بينا استحالة حلول إرادة الباري سبحانه، فلو قال قائل بخلوها أدى إلى خروجها عما هي عليه في ذاتها؛ لأنها لما هي عليه في ذاتها لا توجب إلا بشرط الاختصاص، واختصاصها بالباري ليوجب له كونه مريداً يقتضي بوجودها لا في محل، إذ لا اختصاص في حقه أبلغ من ذلك، وإنما وجب حلول الإرادة في الواحد منا لما قدمنا من أنها لا توجب إلا بشرط الاختصاص، والاختصاص بالواحد منا لا يكون إلا بالحلول، فلذلك أوجبنا حلول الإرادة في الواحد منا، والإرادة محتاجة إلى الباري تعالى حاجة الفعل إلى الفاعل، ووجودها لا في محل لا يوجب استغناءها عن الباري، لأن العالم عندنا لا في محل وهو محتاج إلى الباري سبحانه، وإنما قلنا: [بأنه] لا في محل، لأنه لو كان في محل لأدى إلى افتقار المحل إلى محلٍ فيتصل ذلك بما لا نهاية له، وذلك محال كما ذكرنا في نظائره، ولا يجوز كون الباري تعالى محتاجاً في وجوده إلى الإرادة؛ لأنه واجب الوجود، وواجب الوجود مستغنٍ عن مؤثر في وجوده، وقد بيَّنا كيفية وجودها وقيامها بنفسها، يعني أنها لا تحتاج إلى محل وإيجابها للباري كونه مريداً وأن قيامها بذاته بمعنى حلولها فيها محال، لأنه ليس بمحلٍ الأعراض بياناً يغني عن الإعادة .(1/249)


المسألة الخامسة والعشرون [ هل الإرادة قديمة وقائمة بذاته؟ ]
قال تولى الله هدايته: وهل إذا وجبت الحقيقتان: ذات وإرادة، هل الذات والإرادة معاً في القدم، فيكون تعالى مريداً بإرادة قديمة وقائمة بذاته، أو ليس كذلك، وكيف يصح أن يكون القديم سواه شرطاً في وجوده حتى يفتقر إلى ما هو به قائم ليكون موجوداً بوجوده، وقد استحق حكم القديم الحقيقي، والقدم الحقيقي [القدم] لا يلزمه الافتقار ويستحيل عليه سيما فقد الوجودية، ولهذا لا يكون سواه شرطاً في وجوده، إذ لو جاز ذلك لاطرد في قدم الإله تعالى؟
الجواب: قد قدمنا القول في هذه المسألة حيث بينا استحالة كونه تعالى مريداً بإرادة قديمة، وما ذكره من استحالة افتقارها لو كانت [قديمة] إلى الباري تعالى، في وجودها لازم لمن قال بقدمها، وتلزمه أيضا أن يكون مثلاً للباري لمشاركتها له في القدم، فلا يكون بأن توجب له صيغة المريد أولى من أن يوجبها لها، فيؤدي كون الفاعل وعلة العلة فاعلاً وذلك محال، فما ذكره إنما يلزم الأشعرية ومن قال بقولهم من إخوانهم المجبرة القدرية.
فأما على قولنا في كونه مريداً فلا يلزم ما ذكره بحال من الأحوال.(1/250)


المسألة السادسة والعشرون [ هل الإرادة محدثة وقائمة بذاته ]
قال تولى الله هدايته: أو هل الإرادة محدثة وقائمة بذاته، لكون حدثها موجباً لحاجتها إلى أن يكون سواها شرطاً في وجودها، وقيامها بذات القديم يوجب كونها له إرادة، أو لو قامت بذات سواه لكانت إرادة لمن قامت بذاته، وكيف يصح أن يكون المحدث قائماً بذات القديم، فيكون ذات القديم تعالى محلاً لحادث؟
الكلام في هذه المسألة: على نحو [الكلام في] المسألة التي دللنا فيها على وجوب كونه مريداً، وكيفية وجود الإرادة، فإنها محتاجة إلى الباري حاجة المحدَث إلى المحدِث، والذي لأجله قلنا لا يجوز وجودها في بعض الأحيان هو لأنها كانت بأن تكون إرادة له أولى [من] أن تكون إرادة للباري تعالى، وقد بيَّنا أنه لا بد من كونه مريداً بإرادة؛ لاستحالة فقدان كونه مريداً، واستحالة كونه مريداً لذاته، أو بالفاعل، وقد ثبت أنه لا بد من وجود الإرادة، وبيَّنا استحالة كونها قديمة، ومع وجودها وبطلان قدمها لا بد من حدوثها، وقد بطل كونها موجودة في محل محدث من عرض أو جوهر أو جسم، ولا يجوز حلولها في القديم سبحانه، لأنه ليس بمحل الأعراض، فبقي أنها لا في محل، ولا يجوز القول بأن الباري شرط في وجود الإرادة؛ لأن الشرط هو ما صحح وجود المشروط، ولم يكن له تأثير في وجوده، وصحة وجود المشروط غير الوجود، فالمصحح غير الفاعل؛ لأن المصحَّح لا يخرج المصحح من العدم إلى الوجود والفاعل [مختص] بذلك والفرق بينهما ظاهر، ولعله سلك في ذلك طريقة التجوز، ولكن لا يجوز إجراء المجاز عليه سبحانه إلا بإذن شرعي، ولا إذن شرعي، فلا يجوز إطلاقه.(1/251)


المسألة السابعة والعشرون [ هل إرادة الله موجودة بلا محل؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل يصح أن تكون الإرادة محدثة ولا قائمة بذات سواه، وليست بجسم ولا جوهر، والعرض لا يستقل بنفسه، فيغني عن محل مع دعوى الحدوث؟
الجواب: قد قامت الدلالة على وجودها لا في محل، والدلالة لا تقوم على ما ليس بصحيح، فصح وجودها لا في محل.
وقوله: العرض لا يجوز وجوده إلا في محل، دعوى مجردة عن البيان والبصيرة، وما المانع من وجود بعض الأعراض لا في محل؟ وكيف يُدَّعى المانع مع [قيام وجود] قيام الدلالة على وجودها لا في محل؟ فإن قال: ليست أسماء العرض إلا في محل، فالمرجع بذلك إلى مصالحته لنفسه، ويجب حينئذ اتباع الدليل، فما دل عليه كان الاصطلاح على التسمية فرعاً عليه، وقد ذهب بعض العلماء إلى قريب مما ذكره في أنه لا بد في العرض من أن يحل، [وإيجابه] للأدلة إلى الباري مريداً بإرادة محدثة يستحيل حلولها، فسمَّى إرادة الباري معنى، وقال: يجوز وجود المعنى لا في محل، ونحن سمينا الإرادة عرضاً لأن حقيقة العرض ثابت فيها، ولم يمنع مانع من ذلك، وقلنا: بأنها لا في محل، لأن الأدلة ساقت إلى ذلك.(1/252)

50 / 92
ع
En
A+
A-