المسألة الثانية والعشرون [ هل الفضل حادث أم قديم؟ ]
قال تولى الله هدايته: إن ثبت كونه غنياً في الوجود وجد به، فهل كان حدوثه بعد فضل آخر تقدمه أو لا فضل، فإن يكن بفضل آخر لزمه كإياه، وإن كان لا فضل آخر بطل التأخر بفضل، ووجب موجود مع الإله فيما لم يزل، أو يخرج إلى التسلسل لكون التسلسل ممتدّا إلى الأول، وما لا أول له مع ثبوت وجوده، فهو قديم محض؟.
الجواب: قد بطل بما قدمنا كونه غنياً وجد به وما يتبع الحدث من حلول وغيره، وقد ثبت تقدم الباري على مقدوره كما قدمنا، وثبت أن الفضل أن أحدهما لوجوده أول، والآخر لا أول لوجوده، وذلك فضل لا لبس فيه، فإن قال: إن الباري سبحانه متقدم عليه بذلك رده الدليل، ولكن لا يلزم إذا كان الباري سبحانه متقدماً على مقدوره أن يكون مقدوره قديماً معه؛ لأن ما تقدم عليه غيره ثبت حدوثه ولم يثبت قدمه، وإن أراد به لا يكون حادثاً حتى يتقدمه من الفضول التي قدرها أشياء وحوادث ما لا نهاية له فذلك يحيل وجوده رأساً فضلاً عن كونه حادثاً، وقد ثبت وجوده وحدوثه، وإنما قلنا: يحيل وجوده، لأنه لو لم يصح وجوده حتى يوجد ما لا نهاية له، وقد بينا أن ما لا نهاية له هو ما لا غاية له يقف عندها، فلو قدرنا وجوده لكان غاية قد وقف عندها ما قبلها، وكان ما فيه من الحوادث متناهيا لوقوفه عنده، يوضح ذلك ما نعلمه من أن الواحد منا لو قال: لا أدخل هذه الدار حتى أدخل قبلها ما لا نهاية له من الدور، فإنه متى كان صادقاً لم يحصل منه دخولها أصلاً، وقد أدى القول بإثبات فضول على الوجه الذي ذكره إلى المحال، وهو تعذر وجود المقدور الذي قد قامت الدلالة على وجوده وبطلان تعذره، وما أدى إلى المحال فهو محال يبطل القول بإثبات فضل على ما ذكره، ولا يلزم من إثبات فضل على ما ذكره قدمه، إذ لا يعني بالفصل بين القديم والمحدث سوى أن المحدث لوجوده أول وأن القديم لا أول لوجوده، لأنا قد علمنا الفضل بين ما وجد منذ يومين(1/243)
وبين ما وجد منذ يوم، فكيف لا يعلم الفضل بين القديم الذي لا أول لوجوده ولا غاية وبين المحدث الذي لوجوده أول وغاية، وأكثر ما ذكرناه داخل تحت ما قدمنا، لكنه كرر السؤال فكررنا الجواب.(1/244)
المسألة الثالثة والعشرون[ هل الله تعالى مريد بإرادة أم مريد بذاته؟ وما هو محل الإرادة ]
قال تولى الله هدايته: ثم ننتقل إلى حكم كونه تعالى مريداً لالتقاء البشر والذهول فيقول: إنه تعالى مريداً لذاته أو مريداً بإرادة، وإن كان ذلك يطرد في الحكمين الذين قدمنا السؤال عنهما، ولما كان الحكم واحد كان ما يجاب به في هذه المسألة مطّردٌ في الجملة، فإن يكن تعالى مريداً لذاته فما الوجه في وجوب تخصيص المرادات، وإن يكن مريداً [بإرادة] فهل الإرادة والذات حقيقة واحدة، فيرجع القول إلى أنه مريداً للذات أو حقيقتان، فيحصل من قولنا: ذات حقيقة يجردها الاعتبار الصادق، وإرادة حقيقة أخرى فثبت أن المثنوية بحقيقتين والمثنوية تبطل التوحيد والقدم.
الجواب عندنا: إنه تعالى مريدٌ ولا بد من ذلك لما ذكرنا، لأنا لا نفصل بين التهديد والأمر والنهي إلا بعد إثباته تعالى مريداً، ألا ترى أنه [لا] فرق بين قوله تعالى: ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا?[سبأ:13]، وبين قوله سبحانه وتعالى: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ?[فصلت:40]، لأن كل واحدة منهما صيغة أفعل ممن هو أعلى رتبة لولا الإرادة في أحدهما والكراهة في الأخرى، وكذلك لا فرق بين التهديد؛ لأن كل واحد منهما صيغة لا تفعل، ولا فرق بين ذلك إلا بالإرادة أو الكراهة، فقد ثبت بما ذكرناه وذكره أنه لا بد من كونه مريداً، فلا يخلو إما أن يكون مريداً لذاته أو لغيره، وباطل أن يكون مريداً لذاته؛ لأن ذاته مع المرادات على سواء، فكان يجب أن يريد جميع المرادات ومن جملتها القبائح.(1/245)
وقد ثبت أن الله تعالى كاره للقبائح، فلا يجوز أن يريدها مع ذلك، وإذا كان مريداً لغيره، فالغير لا يخلو إما أن يكون مؤثراً على سبيل الصحة وهو الفاعل، أو على سبيل الإيجاب، وهو العلة، باطل أن يكون مريداً بالفاعل؛ لأنه لا فاعل للقديم تعالى، لما تقدم بيانه، وإذا كان مريداً لعلة فهي لا تخلو إما أن تكون معدومة أو موجودة، لا يجوز أن يكون مريدا لعلة معدومة؛ لأن ذلك يوجب أن نكون مريدين بها لفقد الاختصاص، فكان يجب أن نكون مريدين لجميع ما أراداه تعالى، ومعلوم أنه تعالى يريد ما لا نريده، بل ما نكرهه كالعذاب وما شاكله، ويريد ما لا يخطر ببالنا ولا نعلمه، وإذا كان مريداً لعلة موجودة فهي لا تخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة، لا يجوز أن يكون مريداً لعلة قديمة؛ لأنه لا قديم سواه، ولأنها لم تكن بأن توجب له كونه مريداً أولى من أن يوجب لها ذلك وذلك محال، فلم يبق إلا أن يكون مريداً لإرادة محدثة وهو الذي نقوله، وإذا كان كذلك فهي لا تخلو إما أن تحل أو لا تحل، باطل أن تحل؛ لأنها كانت لا تخلو إما أن تحله أو تحل غيره، باطل أن تحله؛ لأنه ليس بجوهر ولا جسم، ولا يصح حلول العرض إلا في الجواهر والأجسام، وباطل أن تحل غيره لأن الغير لا يخلو إما أن يتحيز عند الوجود أو لا يتحيز، باطل أن تحل في غير المتحيز، لأن أحدهما ليس بأن يكون حالا والآخر محلاً أولى من العكس، ولأن المعقول من الحلول وجود بحنب الغير، وذلك الغير متحيز، وإذا حلت في المتحيز فلا يخلو إما أن يكون جماداً أو حيواناً، لا يجوز أن تحل جماداً؛ لأنه يؤدي إلى وجودها بحيث لا يظهر حكمها، فلا ينفصل وجودها عن عدمها، وحلولها في الجماد قد رفع اختصاصها بالقديم، وإلا وجب أن يريد الشيء بإرادة تحل في بعض الجمادات في حال ما يكرهه بكراهة تحل في بعضها وذلك محال، وإذا حلت حيواناً كانت إرادة له دون الباري تعالى لوجود الشرط والمصحح، والموجب فقد رأيت بطلان حلولها، ووجوب كونه(1/246)
مريداً بإرادة محدثة غير حالة؛ لأن وجودها لا في محل غاية الممكن من الاختصاص به تعالى، والعلة لا توجب إلا بشرط الاختصاص، فمتى وجدت لا في محل كان لها من الاختصاص بالباري ما ليس لها من الاختصاص بغيره، فيكون بأن يوجب له أولى من أن توجب لغيره، ونحن نريد بالعلة في قولنا: لا تخلو إما أن يكون مريداً بالفاعل، والعلة الإرادة، لأنه لا فرق بين قولنا: بالفاعل أو بإرادة، وبين قولنا: أو العلة، ولذلك مرادنا في نظائره، ولا يلزم إذا كان مريداً بإرادة محدثة كما بينا ما ذكره من التثنية وإثبات قديمين، لأنا أثبتنا محدثا ولم نثبت قديماً، ولا يلزم من إثبات محدث إثبات قديم مع الله، والتثنية موضوعة لإفادة قديمين تصدر عنهما الحوادث، فلا يلزم على ما قلنا ما قاله، وما ذكره من أنه لو كان مريداً لذاته لعم المرادات جميعاً لازم لمن يقول: إنه مريداً لذاته، لكنا لا نقول: إنه مريداً لذاته، بل يمنع من ذلك كما قدمنا، وقد قسم في هذه المسألة وفي غيرها قسماً غير حاصرة، لكنّا اعتمدنا على اطراح المسامحة ويوجبنا السمح في الأمور.(1/247)