فالذي يدل على أنه عالم قادر قد تقدم فلا وجه لإعادته، والذي يدل على أن العالم القادر لا يكون إلا موجوداً، ما نعلمه من [كون] استحالة كون الواحد عالماً قادراً لعدم العلم والقدرة مع وجود ذاته وحياته، فبأن يكون عدم الذات مانعاً من ذلك أولى وأحرى، وقد ثبت كونه قادراً عالماً فثبت أنه موجود، ونحن نعلم التعلق المانع من الانفصال بين هذه الصفات أعني كونه عالماً قادرا وكونه موجوداً، وأجلى الأمور ما عوّل العقلاء على وجوده من أنفسهم، فثبت أنه موجود؛ والذي يدل على أنه لا أول لوجوده أنه لو كان لوجوده أول لكان محدثا، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث، والكلام في محدثه كالكلام فيه، فإما أن يحتاج كل محدث إلى محدث إلى ما لا نهاية له وذلك محال، أو ينتهي إلى فاعل قديم يستغني بوجوب الوجود له عن محدث يحدثه، فيجب الاقتصار هاهنا والقضاء بأن الباري لا أول لوجوده، وذلك معنى قولنا إنه قديم تعالى، وإذا قد صح أنه تعالى قديم، فتقدمه على ما أوجده وعلى سائر المحدثات يجب أن يكون تقدماً لا أول له، وما أوجده له أول تحصره الأوقات وتمضي عليه وتعتوره، وذلك معنى الفضل دونما ألزم من كون الفضل جسماً أو جوهراً أو عرضاً؛ لأنه لو كان كذلك فهو مقدور أيضاً، وهل بينه وبين القادر فضل أم لا؟ وإذا كان فضلاً فهو جسم أو جوهر أو عرض، فيؤدي إلى الدخول في باب الجهالات والمحالات، والمؤدي إليها ما ذكره فيجب أن يكون محالاً.(1/238)
وبعد، فالأوقات أبعاض الليل والنهار ولا ليل ولا نهار بين القادر والمقدور، وقد علمنا الفضل بين ما لوجوده أول وبين ما لا أول لوجوده، وإن لم يخطر ببالنا وقت، وليس إذا تقدم أحد الشيئين على الآخر لزم أن يكون متقدما له بزمان أو وقت، ألا ترى أنا نعلم بفطرة عقولنا تقدم اليوم على ما بعده، وتقدم آخر وقت منه على أول وقت مما بعده، ولا يلزم أن يكون تقدمه بوقت؛ لأن الكلام في ذلك الوقت كالكلام في الوقت الأول، فإما أن يؤدي إلى أن يحتاج كل وقت في التقدم إلى وقت إلى ما لا نهاية له وذلك محال، أو لا نعتبر الوقت ولا تقديره ونقتصر على ما نعلمه دون ما نتوهمه، وهذا هو الأولى؛ وقد علمنا ضرورة أن اليوم سابق لما بعده ومتقدم عليه، وكذلك آخر وقت منه لأول وقت مما بعده، فلا معنى لإثبات ما لا يجب إثباته، ولا تقدير ما لا يلزم تقديره، وقد ثبت أن الباري موجود لا أول لوجوده، وأن المحدث لوجوده أول، فإذا كنا قد علمنا تقدم بعض الحادثين على بعض مع أنهما قد دخلا تحت الوجود المشار إلى أوله، فالعلم حاصل لنا بطريقة الأولى أن القديم تعالى سابق للمحدث، والعلم بالفضل بينهما ثابت، ولا يلزم وجود الفضل الذي رجع به إلى الجوهر أو العرض أو الجسم، لأنا قد بيّنا أنا نعلم الفضل، وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، بل هو راجع إلى إثبات الأولية للمحدث وسلبها عن القديم، فإن عني ما نضعه في أفكارنا من المفضل بين المحدث والقديم علمنا أن الباري متقدم على ما سواه فمسلم، ولكن من أين أن ذلك لا حقيقة له، وقد ذكر أن المعلوم متى لم يكن موجوداً فلا حقيقة له وذلك باطل بما قدمنا في المسائل الأول فلا وجه لإعادته، وهذا هو الكلام في هذه المسألة، وظهور الفضل بين الحادث والقديم يغني عن الإطناب في إيضاحه، لأن القديم هو الذي لا غاية ينتهي إليها فيكون معدوماً قبلها، ثم يصير موجوداً، بل هو موجود أزلاً وأبداً، والمحدث هو الموجود الذي ينتهي إلى غاية يكون قبلها(1/239)
معدوماً، ثم يصير بعدها موجوداً، فأي فضل أظهر من هذا، وقد انحسم ما فرعه على أصل السؤال بانحسام أصل السؤال وبطل ببطلانه.(1/240)
المسألة الحادية والعشرون [ هل الفضل عرض أم جوهر؟ أم جسم؟ ]
قال تولى الله هدايته: إن كان عرضاً فهو في محل، إذ لا عرض يقوم بنفسه، وإن كان عرضا لا في محل؛ فما الدليل على وجوده، وإن وجد مع انتفاء المحل فهو قائم بنفسه، ويبطل كونه عرضاً، ويلزم إما أن يكون إما جسماً أوجوهراً فرداً، والزمان والفضل الذي تقديره تقدير الزمان لا يصح أن يكون جوهراً ولا جسماً؛إذ هو عرض متضاعف كالطيف والفوق والتحت، وبالجملة العرض لا يكون سابقاً للجوهر؟
الجواب: قد بينا كيفية العمل بالفضل بين القديم القادر وبين المقدور، وتقدم أحدهما على الآخر، وأنا لا نفتقر في العلم بتقدمه إلى علم زائد على أنه لا أول لوجوده، وكذلك لا نفتقر في العلم بالمقدور وحدوثه، إلى أزيد من العلم بأن لوجوده أولاً، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى فضل يكون جسماً أو جوهراً أو عرضاً، لأنه كان يكون الكلام في ذلك الجسم والجوهر والعرض كالكلام في المقدور لأنه مقدور أيضاً، فإما أن يحتاج إلى فضل هذه حالة فيؤدي إلى القول بما لا نهاية له وذلك محال، وقد أدى إليه القول بأن الفضل يكون كذلك، فيجب أن يكون محالاً، لأن ما أدى إلى المحال فهو محال.
وهذا قول رجع به إلى التحقيق كان خلقاً إذ لا يحسن أن يقال: هل تأخر المقدور عن القادر بجسم أو جوهر أو عرض؟ وما فرع من الكلام إن كان الفضل جسماً أو جوهراً أو عرضاً هو كلام عليه إذ كان بتلك المشابهة، ولم يثبت بعد أنه بتلك المشابهة، فالكلام في هذه المسألة راجع إلى الأولى، لأنه قال: إن كان الفضل عرضاً، وقد تقدم في الأولى أنه ليس بعرض، فإذا استحال الأصل استحال فرعه تبعاً، وقوله: إذا كان عرضاً استحال وجوده لا في محل غير مسلم، فإنا نجوز وجود بعض الأعراض لا في محل كما نذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى.(1/241)
وقوله: إن وجد العرض لا في محل كان قائماً بنفسه، إن أراد [بقائم] بنفسه لا في محل فهذا تكرار وهو مذهب خصمه قد ألزمه إياه، وإن أراد به يكون جوهراً، فمن أين أن كل قائم بنفسه جوهر وكان ذلك يلزم في الباري أن يكون جوهراً، ومعلوم خلافه.
وقوله: إن المطيف والفوق والتحت عرض، غير مسلم، لأن العرض هو الحادث الذي ليس بمتحيز، وما ذكره ليس بموجود ولا حادث، إن رجع بذلك إلى الجهات التي هي الفراغات، وإن رجع به للأماكن فهي أجسام لا أعراض فيبطل ما ذكره وصح ما قلنا.(1/242)