المسألة السابعة عشر [ ما الذي أوجب تأخير إيجاد المقدور؟ ]
قال تولى الله هدايته: وهل [يبطل] كونهما معاً في [الأزل]، ومعاً: هو أن لا يكون بينهما فضل تقدره العقول زماناً ولو كطرفة عين، فما الذي أوجب تأخير المقدور مع وجوب الاقتدار المطلق في الأول، والاقتدار المطلق يرفع الموانع والشرط؟
الجواب عندنا: إن الذي أوجب تأخير المقدور عن بعض أوقات الإمكان، هو حكمة القادر الحكيم؛ لأنه لا يفعل إلا ما تقتضي بحسبه الحكمة ويطابق المصلحة، فأما وجوده في [الأزل] فمحال؛ لأنه يؤدي إلى انقلاب الفعل فاعلاً، والمحتاج مستغنياً وذلك محال.(1/233)


المسألة الثامنة عشر [ لماذا استحال وجود المقدور في الأزل؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل تأخر [وجود المقدور عن] تضايف الأول كان لأمر من قبل الباري تقدست أسماؤه، أو لأمر جاء عن غيره، أو لأمر سواه معه فيما لم يزل، أو من قبل أنه لم يرد إيجاده إلا عندما أوجده في الآن الذي صح منه فيه الإيجاد، أو لرفع جواز الإيجاد بامتناعه إلا عند الإيجاد المقتضي وجود المقدور أعياناً موجودة؟
الجواب عندنا: إن استحالة وجود المقدور في الأزل لأمر راجع إليه وإلى القادر من حيث أنه يخرج عن كونه مقدوراً؛ لأن وجوده فيما لم يزل يوجب استغناءه عن موجد يوجده، ولأنه يوجب خروج القادر عن كونه قادراً، وما أدى إلى ذلك فهو باطل، يبين ذلك أن الدليل على صحة كون القادر قادراً صحة وجود مقدوره، ومعنى صحة وجوده هو إمكانه وجوازه، وجواز وجوده يبطل وجوب وجوده؛ لأنه يستحيل أن يكون موجوداً على الجواز، وعلى سبيل الوجوب؛ لما في ذلك من التنافي.
فالقول بوجوده فيما لم يزل يرفع الصحة التي هي الإمكان؛ لأنه لا حالة قبل ما لم يزل يمكن فيها أن يوجد وألاّ يوجد، فإذا قد ثبت أن إمكان الفعل من جملته دلالة كونه قادراً صح أن القول بوجوده في الأول يرفع العلم بكونه قادراً، وقد دللنا فيما تقدم على أنه قادر، فما أدى إلى بطلانه فهو باطل، والذي خصص وجوده بوقت من الأوقات؛ الإمكان دون وقت هو داعي الفاعل الحكيم المدبر، فيوجده في وقت دون وقت لعلمه بتعلق المصلحة بإيجاده في ذلك الوقت دون غيره من الأوقات، ومعنى هذه المسألة داخل تحت ما تقدم فالجواب عنه واحد.(1/234)


المسألة التاسعة عشر [ في القدرة أيضاً ]
قال تولى الله هدايته: هل الأقدار الذي بوجوبه خلق السماوات والأرض وما سواهن مع كمال إيجادهن بناها وقد أحكمهن، أو هو على استمرار حكمه، فيجوز أن يخلق سماوات وأرضين استمراراً لا إلى غاية، أو لعبور كونه يريد الإيجاد فأمسك عن الفعل فيكون ذلك لأمر من قبل ذاته، فيقتضي رجوعه عما كان له مراداً، أو أراد في آن وأمسك في آنٍ غيره، أو لأمر جاء عن سواه، أو لامتناع الإيجاد عليه استمراراً وارتفاع الوجوب والجواز؟
الجواب عندنا: إن القديم عز وجل لا يخرج عن كونه قادراً بحال من الأحوال في وقت من الأوقات، بل هو قادر على جميع أجناس المقدورات في جميع الحالات التي يجوز وجودها فيها كما قدمنا، وعندنا أنه يجوز أن يخلق سماوات وأرضين إلى غير غاية ينتهي إليها، فلا يتعذر عليه الإيجاد تعالى عن ذلك، بل لا يمتنع عليه شيء من مقدوراته، ولا تحجز الموانع بينه وبين مراده، ومعنى يجوز أن يخلق سماوات وأرضين إلى غير غاية أنه يمكنه أن يخلق إذا أراد أن يخلق؛ لأن الحكمة تمنع من أن يخلق خلقاً وهو غير مريد له، أو يريده ولا يدخل بخلقه في باب الحكمة؛ لأنه لو كان كذلك لكان قبيحاً، والله تعالى لا يفعل القبيح؛ لأنه عالم بقبحه، وغني عن فعله وعالم باستغنائه عنه، ومن كان بهذه الصفات فإنه لا يفعل القبيح أصلاً.(1/235)


وقد بينا أنه فاعل قادر وليس بعلة موجبة، لولا ذلك لكان العالم قديماً، وقد دلت الدلالة على حدثه؛ فالفاعل القادر لا يقال: لم [فعلت] في وقت دون وقت إلا متى علم أن الداعي المتوفر قائم إلى إيجاد مثل ذلك الفعل ولا صارف له عنه، فإنه حينئذ يفعل، ولكن من أين أن الداعي إلى إيجاد سماوات وأرضين قائم، ولا صارف عنه حتى [لا يقال]: لِمَ لم يوجد؟ وبعد فالباري عز وجل متفضل بخلق السماوات والأرض على المكلفين وغيرهم من الأحياء، فلا يقال: يجب على المتفضل أن يتفضل لا محالة؛ لأن للمتفضل أن يتفضل وأن لا يتفضل، ولأنه لا دليل على أنه أراد [إيجاد] ما لا نهاية له من السماوات والأرضين، فيكون إذا لم يفعل انكشف لنا أنه قد رجع عما كان أراده، بل لو أراد أن يوجد إلى غير غاية لفعل، ووجوب كونه قادراً، وجواز وجود الفعل ثابتان لم يزولا، ولكن لا يلزم وجود الفعل لا محالة؛ لأن القادر قد لا يفعل ما هو قادر عليه مع وجوب كونه قادرا، وجواز وجود المقدور لأنه لا يمنع أن يصرفه بعض الصوارف عن إيجاد مقدوره الذي يجوز وجوده من جهته فلا يوجده، وقد يكون الصارف علمه بأن على الغير في إيجاده مضرة ومفسدة، أو علمه أن ذلك الفعل قبيح إلى ما شاكله، فلا يلزم ما ذكره على حال.(1/236)


المسألة العشرون [ هل الفصل بين القادر والمقدور عيناً؟ ]
قال تولى الله هدايته: تأخر المقدور عنا في الوجود يقتضي فضل زمان، أو ما تقديره تقدير الزمان وهو الحين الذي لم يكن فيه موجوداً إلى أن أوجده، فإن كان ذلك الفضل شيئاً موجوداً لزم أن يكون محدثا، إذ لا موجود مع الإله غير ما كان محدثا بإحداثه إياه، وإن كان في أفكارنا وفي القول منا فقط، ولا عين له في أن يكون موجوداً، فذلك غير موف لحقيقة ولا فضل حسب أن لا فائدة نجيد بها بما نضعه في أفكارنا دون أن يكون له وجود، مثلما نضع إن إنساناً بصفة حجر وبصفة لحم فإذاً لا فضل، ويلزم معه كون المقدور مع القادر تعالى فيما لم يزل، وإن كان عيناً غير محدث حصل مع الإله في الأزل، قديما غير محدث، وإن لم يكن محدثاً فهو إما جسم أو جوهر أو عرض؛ إذ هكذا كل محدث؟
الجواب: ينبغي أن [نتبين] أولاً معنى القديم، ويدل على أن الباري قديم، لنرتب عليه الكلام في الفضل بين القادر والمقدور، فمعنى القديم هو الموجود الذي لا أول لوجوده، ونحن نحتاج إلى بيان فصلين: أحدهما: أنه تعالى موجود. والثاني: أنه لا أول لوجوده.
فالذي يدل على أنه تعالى موجود أنه عالم قادر، والعالم القادر لا يكون إلا موجوداً، ونحن نحتاج إلى بيان أصلين : أحدهما: أنه عالم قادر؛ والثاني: أن العالم القادر لا بد من أن يكون موجوداً.(1/237)

47 / 92
ع
En
A+
A-