المسألة الخامسة عشر [ في خصائص قدرته جل جلاله ]
قال تولى الله هدايته: هل اقتداره تعالى إن وجب عاماً أو خاصاً على أحكام ما اشترط وكان ذلك له فيما لم يزل مبرءاً من داعٍ وصارف يقتضي ظهور المقدور عنه فيما لم يزل أو طارئاً عند الإيجاد فقط، أو قادراً ولا مقدور فيكون فاعلاً في آن دون آن، وما السبب الذي اقتضى إيجاد الفعل في الآن الذي حصل فيه الإيجاد دون سواه؟
الجواب: قوله: هل اقتداره تعالى إن وجب عاماً أو خاصاً على أحكام ما اشترط، أن اقتداره -تقدس عن النظير- عام في جميع أجناس المقدورات؛ حتى لا مقدور إلا هو يقدر على جنسه على أبلغ الوجوه كما قدمنا.(1/228)
وقد بيّنا أن وجود المقدور الواحد من قادرين محال، وعندنا أن ذلك ثابت للقديم عز وجل أزلاً وأبداً، أعني كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات؛ لأنه قادر لذاته، ومن حق ما يثبت للذات أن يكون ملازماً للوجود؛ لأنه لو [لزم] في حالٍ دون حال لكان لابد من أمر أوجب ثبوته في حال دون حال؛ لأنه لم يكن بأن يثبت أولى من أن لا يثبت لو لا ذلك الأمر، ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر الذات وما هي عليه من الصفات؛ لأنها ثابتة وما هي عليه أولاً وأبداً، فيجب ثبوت الصفات في جميع الحالات، فيبطل ثبوت ذلك في حالٍ دون حال، وإذا كان غير الذات كافاً فلا، أو علة، ولا يجوز أن يكون الله سبحانه قادرا بالفاعل؛ لأنه لا فاعل له، ولأن ذلك الفاعل لا بد من كونه قادراً لاستحالة وجود الفعل ممن ليس بقادر، وإذا كان قادراً كان الكلام فيه كالكلام في الباري، فإما أن لا يحتاج إلى فاعل فنقول بذلك في الباري تعالى، وإما أن يحتاج إلى فاعل فيؤدي إلى التسلسل؛ ولا يجوز أن يكون قادراً لعلة؛ لأنها لا تخلو إما أن تكون موجودة أو معدومة؛ ولا يجوز أن يكون قادراً لعلة معدومة؛ لأنها معه ومعنا على سواء، والعلة لا توجب لأحد الذاتين الذي يصح أن توجب لهما إلا بشرط أن تختص بها، ولا خصوص هاهنا، فكان يجب إذا أوجبت له أن توجب لنا؛ ومعلوم أنها لم توجب لنا لأنها لو أوجبت لما تفاضل القادرون لأن الموجب واحد، ولما صح منه تعالى ما استحال منا لما ذكرناه، ومعلوم خلاف ذلك، وإذا كانت موجودة لم تخل إما أن يكون لوجودها أول أو لا أول لوجودها، فإن كانت لا أول لوجودها فهي قديمة، وفي ذلك إثبات قديم معه وذلك لا يجوز، ولأنها [لو]لم تكن بأن توجب له كونه قادراً أولى من أن توجب لها كونها قادرة، فتخرج عن كونها علة وتصير فاعلاً وذلك باطل وإذا كان لوجودها أول فهي المحدثة ولا يجوز أن يكون قادراً لعلة محدثة؛ لأنه كان لا يخلو إما أن يكون أحدثها هو تعالى أو غيره، وباطل أن يكون(1/229)
أحدثها غيره؛ لأن وجود غيره من القادرين يترتب على كونه سبحانه قادراً، وباطل أن يكون أحدثها هو تعالى لاستحالة وجود الفعل إلا من قادر، فلو لم يكن قادراً إلا بعد إحداثها، ولا يحدثها حتى يكون قادراً، لو وقف كل واحد من الأمرين على صاحبه، فلا يحصلان ولا واحد منهما وذلك محال؛ فإذا صح ما ذكرناه ثبت كون الباري سبحانه قادراً لذاته، وهو موجود أزلاً وأبداً؛ فيجب أن يكون قادراً فيما لم يزل على جميع أجناس المقدورات كما قدمنا، وحصول المقدور في الأزل مستحيل من حيث أنه يكون مستحيلاً قديماً، ومتى كان كذلك استغنى عن موجود يوجده وخرج عن كونه مقدوراً، فكيف يكون فعلاً له سبحانه وليس الباري -تقدس- عندنا علة موجبة، فيجب لوجودها وجود معلولها، بل هو فاعل مختار، يفعل على مقدار ما يعلمه من المصلحة، وداعيه سبحانه هو المخصص لوجود الفعل في آن دون آن، وهو علمه بأن إيجاده في ذلك الآن ممكن، وبالغ مبلغه في الصلاح دون غيره من الآناء والأوقات، وما ذكرنا من أنه هل يكون موقوفاً على أمر طارئ عند الإيجاد، إن أراد بذلك الأمر كونه قادراً على الإيجاد، وأنه طرأ عند الإيجاد، فذلك باطل بما قدمنا من أنه قادر لذاته فلا يقف كونه قادراً على أمرٍ؛ لاستحالة ذلك بما ذكرنا؛ وإن أراد بالأمر إرادة الباري واختياره الإيجاد في آن دون آن فمسلم؛ غير أن الأجسام والإرادة ليستا موجبين للمراد، وإنما الداعي إلى المراد يدعو إليهما، وليسا بمقصودين في أنفسهما.(1/230)
وقوله: هل يكون قادراً ولا مقدور؟ إن أراد هل يجوز كونه قادراً، ولا يصح منه إيجاد مقدوره، فذلك مناقضة ظاهرة، لأنا لا نعني بالقادر إلا من يصح منه الفعل، وإن أراد هل يكون قادراً ومقدوره معدوم فذلك شرط عندنا في كونه قادراً عليه؛ لأنه لو كان موجوداً لاستحال منه إيجاده؛ لما بينا أولاً من أنه لو كان موجوداً لاستغنى عن موجود بوجوده، فالقادر إنما يوجد المعدوم، ويحصل له صفة الوجود، فإذا كان موجوداً استغنى عن موجد يوجده، فالقادر إنما يوجد المعدوم ويحصل له صفة الوجود، فإذا كان موجوداً استغنى عن موجد، والباري عز وجل متفضل بخلق العالم؛ لأنه لا دليل يوجب ذلك عليه فيوجد قدراً من مقدوراته دون قدر، وجنساً دون جنس، فلا يجب استمرار الإيجاد لفقد الموجب له، ولا اعتراض على المختار الحكيم فيما اختاره، فلا يلزم إلا ما قلنا والله الهادي.(1/231)
المسألة السادسة عشر [ ما الحكم المميز بين ذاتي القادر والمقدور؟ ]
قال تولى الله هدايته: إن صح أن المقدور معه فيما لم يزل، فما الحكم المميز بين ذاتي القادر والمقدور وقد وجب لهما حكم [المقدور]؟
الجواب: قد بطل كون المقدور ثابتاً في [الأزل]، وبيّنا استحالة ذلك في المسألة الأولى، وعلى ما نذهب إليه الفرق ظاهر بين المحدث والقديم، والفاعل والمفعول، والمستغني عن الموجد والمفتقر إليه، فسبحان من لا يشبه المحدثات، فتعتوره أحكامها، ولا يماثل الموجودات، فتهرمه أعوامها، جل عن نظير وتقدس عن شبيه.(1/232)