المسألة الثانية عشر [ هل يصح أن يكون الله عالماً بالمعدومات؟ ]
قال تولى الله هدايته: قيل: إيجاده أعيان ما أوجد لثبوت كونه سابقاً في الوجودية، إذ قدمه لا أول له وذلك من شرائط وجوب إلهيته فيماذا فيما لم يزل كأن يتعلق علمه والأعيان غير موجودة، ولا عنده صور معلومة قائمة بذاته مفصلة، ومحال أن يكون غير عالم بها؛ إذ لا يصح مدار الإضافة على غير وجودية لمتضايف حتى تكون هي معلومة عند عدة الأعيان -أعني قبل إيجادها- كالسماء والأرض والنجوم وما بينهما؟.
الجواب: قد بيّنا تضايف العلم والمعلوم؛ وأنه لا يحتاج إلى الوجودية في التضايف ومثلناه بالقدرة، وأكدناه بذكر ما علمنا من الحساب، والعقاب، والجنة، والنار، وأيضاً فإنا نعلم أفعالنا قبل وجودها، ولولا ذلك لما أوجدناها محكمة، وبعد عدمها فيما ذا يتعلق علمنا، ومعلوم أنه لا بد من التعلق إذ كان المعلوم ذاتا كما سبق؛ لولا أن العلم يتعلق بالمعدوم كما يتعلق بالموجود، فثبت أنه لا يجب وجود الأعيان معه في الأول ليصح كونه عالماً بها، بل يكفي في ذلك أن يكون مما يصح العلم به والخبر عنه، وقد صح العلم بها في حالة عدمها بل وجب كونه عالماً بها، ولولا ذلك لما وجدت محكمة وصح الخبر عنها قبل الوجود، ولذلك أعلمنا الباري سبحانه بما أعده للفريقين قبل وجوده، وكذلك بعده، فيوجد تقدست أسماؤه من معلومه ما يتعلق به الصلاح، لا لضرورة تلجئه، ولا لحاجة تدعوه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(1/223)


المسألة الثالثة عشر [ حول حقيقة المعلوم وما يترتب عليها ]
قال تولى الله هدايته: كل معلوم محصور الجملة؛ وذلك أن العلم هو فهمك المعلوم على ما هو به؛ وفهمك المعلوم يلزم منه إما فهمك الجملة أو البعض، والتبعيض لا يلزم منه فهم المعلوم على ما هو به؛ لأنه لا يحصل بفهمه فهم حقيقة جملة المعلوم؛ لأن الذي لم يعلم منه لم يندرج تحت العلم فيكون مفهوماً منه حقيقة، وهذه صفة نقص في العلم؛ لأن ما لم يعلم منه إما أعظم مما علم، وإما دونه، أو مماثلاً، أو مخالفاً، أو أعظم في القوة، أو أضعف؛ وإما أشرف أو أحسن، فإذا [حقيقة] العلم أن تفهم حقيقة المعلوم على ما هو به، وكل معلوم محصور الجملة وهذا فهو إيضاح ما هو العلم وتنقيحه وما يساوق إليه من لوازمه، فهل الباري سبحانه يعلم ذاته فيكون جملة محصورة بعلمه، وكل جملة محصورة فإن لها حداً تقف عنده، أو لا يعلم ذاته، وهو موجود فيحصل موجود هو به غير عالم؟
الجواب: قوله: كل معلوم محصور الجملة؛ غير مسلم على الإطلاق؛ لأن الباري عز وجل أجل المعلومات، وليس بجملة؛ لأن الجملة ما تركب من أشياء فصار في حكم الشيء الواحد، كجمل الأعداد نحو العشرة [والمائة] تقول: عشرة واحدة، ومائة واحدة، وجملة الجسم ما تركب من جواهر مؤتلفة طولاً وعرضا وعمقاً، تقول: من ذلك جسم واحد؛ وجملة الإنسان ما تركب من أعضاء مخصوصة؛ تقول: إنسان واحد، وكذلك سائر الجمل؛ فالحصر في الجملة فرع على الجملة؛ لأنه إذا كان عدداً انحصر ببلوغ غايته التي هي موضوعة له، والباري يتعالى عن ذلك.
وقوله: وفهمك المعلوم، يلزم منه إما فهمك الجملة أو البعض، مسلم متى كان المعلوم [الجملة]؛ وقد بيّنا أن القديم تقدس ليس بجملة؛ لأنه لو كان جملة لكان مركبا كما قدمنا، والتركيب دلالة الحدث وهو تعالى قديم.(1/224)


وقوله: والبعض والتبعيض لا يلزم منه فهم المعلوم على ما هو به؛ لأنه لا يحصل بفهمه فهم حقيقة جملة المعلوم، غير مسلم على الإطلاق؛ لأن فهم البعض قد حصل منه فهم حقيقة المعلوم الذي هو البعض على ما هو به [فإن أراد أن فهم البعض لا يحصل منه فهم الكل فذلك ثابت، ولكنه قد يتناول المعلوم الذي هو البعض على ما هو به]، وكلما ذكر من التفصيل والتطويل مبني على أن الباري جملة، تقدس عن ذلك وتعالى، وقد بينا أن ذلك لا يجوز.(1/225)


وقوله: فإذا حقيقة العلم أن تفهم حقيقة المعلوم على ما هو به مسلم؛ لكن القديم ليس بجملة فيعلم كله أو بعضه؛ لأن ذلك من لوازم الحدوث؛ فلا يجوز أن يقال: كل الباري سبحانه؛ لأن الكل مجموع أبعاض ولا بعض له؛ لأن البعض جزء الكل؛ فإذا علم الباري لذاته على ما هو عليه أن لا يعلم ذاته جملة ولا بعضا؛ لأنه يستحيل عليه التجزؤ، والانقسام، والتلفق، والانضمام، تعالى عن ذلك مالكنا وربنا، بل هو كما قال [عز و] جل لنبيه عليه السلام حيث يقول في مقابلة قول المشركين: ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ?[الصمد:1]، وقوله: ?وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ?[المائدة:73]، فهو عز وجل يعلم ذاته بأنه أجل المعلومات، وقد وجب أن يعلم جميع المعلومات بما بينا أولاً، وهو يعلم ذاته متميزاً عن غيره بصفات الكمال التي لم تثبت لغيره من كونه قادراً على جميع أجناس المقدورات، عالماً بجميع المعلومات، حياًّ لا يجوز عليه الموت، موجوداً لا يجوز عليه العدم، سميعاً لا تخفى عليه خافية، بصيراً لا تغب عنه غائبة، قديماً لا أول لوجوده، متعالياً عن ظلم عبيده، فيعلم ذاته على هذه الصفات، ومتى علمها على هذه الصفات؛ فقد علم الشيء على ما هو به؛ والجملة والبعض لا يثبتان في حقه، وذكر الحصر وتوابعه لا يجوز إطلاقه عليه؛لأنه ليس بمعدود فيكون حصره يناهي عده، ولا محدود على هذا المعنى فيكون حصره ببلوغ حده، بل هو الواحد على الحقيقة؛ إذ لا واحد على الحقيقة سواه، فكيف يجوز إدخال الحصر على غير معدود، والتناهي على غير محدود!!فصح ما ذكرناه في بارينا سبحانه وعلمه بذاته التي هي أجل معلوم.(1/226)


المسألة الرابعة عشر [ هل الله قادر على جميع المقدورات؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل يصح أن الله سبحانه قادر على ما يندرج في مقدور كل موجود إطلاقاً مبرأً من الشرط والتقييد، عاماً يشمل جميع المقدورات، حتى لا يوجد مقدوراً إلا وهو قادر عليه أو لا يجوز ذلك؟
الجواب عندنا: إن الباري عز وجل قادر على جميع أجناس المقدورات، حتى لا يوجد قادر إلا ويصح من الباري أن يفعل جنس ما فعل على أبلغ مما فعل، ولا يطلق صحة وجود عين المقدور الواحد المعين من قادرين؛ لأنا لو قدرنا أن الداعي المكين دعا أحدهما إلى إيجاد ذلك المقدور، وصرف الثاني عنه الصارف البليغ، أدى إلى أن يكون موجوداً من جهة من دعاه الداعي إلى إيجاده، معدوماً [من جهة من صرفه عنه الصارف فيكون موجوداً معدوماً] وذلك محال، فثبت ما قلناه، وصح أن الباري عز وجل قادر على جنس مقدورات العباد، كالحركة وما شاكلها على أو فى الوجوه، ولا يقدرون على أجناس مقدوراته التي اختص بالقدرة عليها كالجواهر وما شاركها في استبداده بالقدرة عليها فسبحانه وتعالى.(1/227)

45 / 92
ع
En
A+
A-