المسألة الخامسة [ هل المعلومات صور قائمة بالعالم بها؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل المعلومات عند الموصوف بالإحاطة بها حتى استحق صفة كونه عالماً بها صورة متحصلة قائمة بذاته كصورة الدار في نفس الباني لها قبل بنائها حتى استحق صفة كونه عالماً بها؛ ليصح البناء على نفس ما علم أو على وجه آخر أو لا يصح ذلك على الإطلاق؟.
الجواب عندنا: إنه لا يصح حصول صورة المعلومات في نفس العالم بها؛ لأن النفس غير متحيزة عند من يقول هذا القول، والمعلومات منقسمة إلى متحيز وغير متحيز، ومحال قيام المتحيز فيما ليس بمتحيز، ومحال أيضاً قيام ما ليس بمتحيز بما ليس بمتحيز؛ لأنه لا يكون أحدهما قائماً بالآخر، والآخر مقوماً به، أولى من العكس، فيؤدي إلى أن يكون قائماً بنفسه من حيث قام به غيره، غير قائم بنفسه من حيث لم يستقل بنفسه، فيكون قائماً بنفسه غير قائم بها؛ ولأن غير المتحيز متضاد، كالبياض والسواد، ومحال قيامها بشيء واحد في حالة واحدة؛ ولأن الباري عز وجل أجل المعلومات، ومحال حصوله في شيء من الأشياء من نفس وغيرها، ولا ما يحاكيه؛ لأنه لا محاكي له.(1/213)
وقوله: هل المعلومات صور محصلة في نفس العالم، كالدار في نفس الباني تمثيل بما لم يسلم بعد؛ لأنه يستحيل كون الدار في نفس الباني -كما قدمنا، وحصول العلم في نفس العالم كان في إيجاد المعلوم، وليس العلم مثلاً محاكياً للمعلوم كما يظنه من قال بذلك؛ لأن العلم عرض، والعرض لا يكون محاكياً للجوهر ولا للقديم. مع أن علم أحدنا قد يتعلق بالقديم والجواهر، ولو كانت النفس متحيزة لاستحال أيضاً حصول المعلومات فيها؛ لأنه ينقسم كما قدمنا إلى متحيز وغير متحيز، ومحال حصول المتحيز في المتحيز؛ لأنه يستحيل في المتحيزات التداخل، وقيام بعضها بالبعض؛ لأنه لو جاز ذلك جاز أن يكون العالم في موضع جزء واحد، وخلافه معلوم، وما ليس بمتحيز ينقسم إلى عرض وغير عرض؛ فغير العرض هو الباري تعالى، ومحال وجوده في شيء من المتحيزات تعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ والعرض ينقسم إلى ما هو من فعل الله وإلى ما هو من فعل العبد، فما كان من فعل الله سبحانه استحال وجوده في نفس الواحد منا؛ لأنه يشتمل على المتضادات كالبياض والسواد وغيرهما، ومحال كون الذات على صفتين ضدين، ومحال حصول البياض والسواد لشيء واحد، فيظهر حكم أحدها دون الآخر لفقد المخصص من حيث أنهما على سواء، ولأن ذلك يرفع علمنا بالتضاد وذلك لا يجوز، ولأنه يستحيل وجود الشيء الواحد في وقت واحد في جهتين.
وإن كان من فعل العبد وهو الافتراق والاجتماع، ونريد إيجادهما، ومحال وجودهما في نفسه في حالة واحدة [لأن ذلك يؤدي إلى كون النفس مجتمعة مفترقة في حالة واحدة]، وذلك محال، أو وجود الاجتماع والافتراق، ولا حكم لهما وذلك محال، وقد أدى إلى ضروب هذه المحالات، وصنوف هذه الجهالات القول بأن المعلوم حاصل في نفس العالم، فيجب القضاء بفساده.(1/214)
المسألة السادسة [ هل المعلومات هي نفس الذات أو معانٍ زائدة ]
قال تولى الله هدايته: إن وجب أن المعلومات صور محصلة عند العالم بها، فهل هي نفس ذاته أو هي معان زائدة على ذاته قائمة بها؟ أو هي قائمة بسواها أو مستقلة بنفسها، وإن فرض كونها قائمة بذات سواه هل يصح أن تكون هي حقيقة العلم الذي به وصف بأنه عالم، وهي قائمة بذات سواه؟
الجواب: صحة هذا السؤال ينبني على صحة السؤال الأول، والجواب عنه على نحو الجواب عن الأول، فلا وجه لتطويل الكلام بما قدمنا ذكره، وما سبق كافٍ لمن نظر بعين البصيرة، وانقاد لحكم الضرورة.(1/215)
المسألة السابعة [ هل ما سبق يطّرد في علم الله سبحانه؟ ]
قال تولى الله هدايته: هل يطرد ذلك في علم الله سبحانه من إضافة، أو نفي، أو جملة، أو تفاصيل، وذات؟
الجواب: اطراده على الوجه الذي ذكر ينبني على صحة ما قدمه في الإضافة وتوابعها، وما عقبها به من الأسئلة، وقد أجبنا عن ذلك بما يثلج [عن] صدر الراغب، ويشفي غليل الطالب، وليس فيما ذكره زيادة تقتضي إفراد جواب، وكشف لثام ونقاب، بل لو يسلم [لما سلم عنه] أولاً لما تلقى هذا إلا بالتسليم على الوجه الذي سلم عليه الأول، وتعذر ذلك بما تقدم من الجواب، ليسقط هذا تابعاً؛ لأنه فرع لذلك الأصل، فعند الجد أنه لا ينظر العاقل في ذهاب الفرع، والكلام في الذات قد تقدم في الأولى من المسائل، وفي الإضافة وقع في الثانية والثالثة، وفي الجملة والتفصيل، والتعميم، والتخصيص وقع في الرابعة؛ فلا وجه لإعادته.(1/216)
المسألة الثامنة [ كيفية معلومات الله تعالى ]
قال تولى الله هدايته: هل معلوماته تعالى التي هي نفس تفاصيل علمه مقصورة في عموم علمه وتخصيصه على نفس ما يصح إيجادها عليه في العالم، صورة الفيل على ما هي عليه، والإنسان والفرس إلى غير ذلك أم هي عنده على وجه آخر؟.
الجواب: قوله أرشده الله: هل معلوماته التي هي نفس تفاصيل علمه لا تصح؛ لأن المعلوم ليس جملة العلم ولا تفصيله، لأنه لو كان المعلوم هو العلم على وجه من الوجوه. وعندنا أن العلم يحل قلب الإنسان وعند الغير يحل نفسه؛ لأدى إلى كون المتضادات في محل واحد، وذلك باطل كما قدمنا.
وقوله: نفس تفاصيل علمه إن أراد معلوماته كان تكراراً؛ لأنه يصير كأنه قال: هل معلوماته التي هي تفاصيل معلوماته وذلك غير سائغ لمتصدرٍ لمثل هذا الشأن، جار في هذا الميدان، وإن أراد أن للباري علماً به يعلم، كما ذهب إليه بعض أهل الصلاة، فذلك باطل بما نذكر في موضعه من كتابنا هذا.
وقوله: مصور في عموم علمه باطلٌ بما أبطلنا به عموم العلم فهذا غير مستقيم لما قدمنا، وإن أراد ما هو المفهوم من التصور؛ لأنه إذا أطلق سبق إلى فهم السامع أن الإنسان قد ظن أن ما غاب عنه بصفة ما شاهده، وهو غير قاطع بذلك، فلا يجوز على الله التصور؛ لأنه عالم بجميع المعلومات لما يأتي بيانه؛ نبين ذلك ونوضحه؛ أن الإنسان متى حصل له العلم بالباري سبحانه لم يحسن منه أن يقول: تصورت أن للعالم صانعاً، ولا تصورت أن السماء فوقي، والأرض تحتي، بل يكون ذلك خُلقاً من القول مستهجناً، فيكفي في ذلك أن يقول: لا بد من كون الباري تعالى عالماً ليصح منه إيجاد الفعل محكماً لاستحالة وجود الفعل المحكم ممن ليس بعالم.
وأما صحة وجود الفعل على الإطلاق فلا يفتقر إلا إلى كونه قادراً فقط.(1/217)