عدنا إلى ذكر الرسالة جاءت موشحة بالأسئلة، باسطة كف المسألة، معرضة في سوق الاعتراض، منصوبة نصب الأغراض، داعية نزال، مدرعة للنصال، فلبيت دعوتها حاسراً، ونضوت عليها سيفاً من مهجات الغوامض قاطراً، تلبية ليث الغريسة، صوت الفريسة، متجانفا عن طريقة الإسهاب، غير مصغ إلى الإطناب، إلا ما تدعو إليه الحاجة في السؤال والجواب، راكباً متن الإنصاف فيما أورده، متوخيا للصلاح فيما أعتمده، موثقا لعلائق عرى الأجوبة، عاضا عليها بضرس التجربة، تنقيح من رضع خلف الهداية، في إبان البداية، لم يختلجه المحرفون عن بصيرته، ولا ألجأه الجائرون إلى تلبيس صورته، قائلاً بتنزيه الواحد الحميد، دياناً بالعدل والتوحيد، بأدلة محصدة، وأركان موطدة، لا يزعزعها عواصف المشكلات، ولا ترجلها قواصف الشبهات.
من هاهنا نبتدئ الجواب، ومن الله نستمد الصواب:(1/208)


المسألة الأولى [ هل العالم والعلم حقيقتان أم حقيقة واحدة ]
قال تولى الله هدايته: هل العالم والعلم حقيقتان، أو هما واحد في الحكم؛ فيكون ما دل على أحدهما دل على الآخر، أو ليس كذلك؟
الجواب [عندنا]: إن العالم والعلم حقيقتان؛ والمراد بذلك أنهما ذاتان، يعلم كل واحد منهما على انفراده؛ لأنا نعلم الواحد منا بالمشاهدة، ونعلم العلم الذي لأجله كان عالماً بالاستدلال، فلو كانا حقيقة واحدة لم يصح أن يجتمع العلم بهما من جهة الضرورة التي هي المشاهدة، ومن جهة الاستدلال؛ لأن من حق المستدل أن يكون حال استدلاله مجوّزاً مميلاً، والعلم الضروري بل العلم الاستدلالي مانع من التجويز، فقد صح لك تنافيهما، ولا يصح الاجتماع مع التنافي، ولأنه قد يعلم العالم من لا يعلم العلم، كنفات الأعراض ومن قال بقولهم، ولو كانا حقيقة واحدة لم يصح ذلك؛ لأن العلم بالشيء والجهل به في حالة واحدة لا يجوز، فدل ذلك على أنهما ليسا بشيء واحد، ولا حقيقة واحدة؛ وكون العلم يدل على العالم، والعالم يدل على العلم لا يقتضي ما ذكره [من أنهما] يصيران حقيقة واحدة؛ لأن حدث العالم دال على الباري من حيث الصنعة، والباري دال على حدث العالم من حيث إكمال العقول والتمكين، ولم يقتضِ ذلك كونهما حقيقة واحدة؛ ولأن حقيقة العالم هو المختص بصفةٍ لاختصاصه بها، يصح منه إيجاد معلومة أو ما يجري مجرى المعلوم، محكماً إذا كان [مقدوراً له]، ولم يكن هناك منع، ولا ما يجري مجرى المنع؛ والعلم هو: الاعتقاد الذي يقتضي سكون نفس المعتقد إلى أن معتقده، أو ما يجري مجرى المعتقد على ما اعتقده عليه؛ فلو كانا حقيقة واحدة لكان حد كل واحد منهما حد للآخر؛ لأن الحد يكشف عن المحدود على جهة المطابقة، وقد رأيت خلاف ذلك هاهنا.(1/209)


المسألة الثانية [ هل العلم والمعلوم بالوجودية دائران في الإضافة ]
قال تولى الله هدايته: هل العلم والمعلوم بالوجودية دائران في الإضافة أو ليسا بدائرين؟.
الجواب عندنا: إن العلم المعلق لا بد له من معلوم، ولا فرق في ذلك بين الموجود والمعدوم، [هذا] رأي من لم ينوِّع الوجود وهو الصحيح، فأما قول من قسمه إلى وجود الأذهان، ووجود الأعيان، ووجود اللسان، ووجود الكتابة، فقول لا حقيقة له؛ لأن الوجود إن رجع به إلى ما يعقل أدى إلى كون الشيء الواحد في مكانين وأكثر في فينة واحدة وذلك محال، وإن رجع به إلى وجود غير معقول فلا فائدة في الكلام فيه؛ وإنما قلنا ما قلنا لأن العلم المتعلق يتعلق بالشيء على ما هو به من وجود أو عدم؛ ألا ترى أنا نعلم حقيقة ما وعدنا الله به ورسوله من جنة ونار، وعرض وحساب، ويتعلق علمنا به وإن كان معدوماً كما يتعلق بالموجود على ما هو عليه من الوجود وتوابعه، فإضافته دائرة في العلم والمعلوم، ولا وجه لاعتبار الوجودية؛ كما أن الإضافة ثابتة في القدرة والمقدور ثباتها في العلم والمعلوم، [ولا تدور إضافة الوجودية فيها] لأنه إذا وجد خرج عن كونه مقدوراً متعلقاً بالقدرة، لاستحالة تعلق القدرة [بالموجود] من وجهين:
أحدهما: أنها لو تعدت الوجه الواحد في تعلقها ولا مخصص لتعدت إلى ما لا نهاية له، وذلك محال .
والثاني: أن تعلقها بالموجود يوجب حاجته إليها، [وجوده] يوجب استغناءه عنها؛ فيكون محتاجاً مستغنياً في حالة واحدة، وذلك محال، فيكفيك في الإضافة أن تقول: لا يجوز وجود علم متعلق لا معلوم له، سواءً كان المعلوم موجوداً أو معدوماً كما بيَّنا في القدرة، وهذا إنما يجب في العلم بالذوات؛ فأما العلم بالنفي المحض فإنه لا معلوم له كالعلم [بأنه] لا ثاني مع الله سبحانه وتعالى؛ فالإضافة حينئذ تثبت بين العلم وبين ما يجري مجرى المعلوم وهو النفي المحض.(1/210)


المسألة الثالثة [ هل يصح إثبات وجود العلم مع نفي الإضافة ]
قال تولى الله هدايته: أيصح إثبات وجود العلم مع نفي الإضافة، والوجودية المسماة معلوماً حتى يفرض من نفيها وإثبات وجوده علماً ولا معلوماً؟
الجواب عندنا: لا يصح وجود العلم المتعلق ولا معلوم، وسواء كان المعلوم موجوداً أو معدوماً على نحو ما قدمنا؛ وإنما قلنا ذلك لأن القول بخلافه يرفع كونه متعلقاً، ويخرجه عن قبيله، وذلك لا يجوز، فأما العلم الذي ليس بمتعلق، فإنه يجوز وجوده ولا معلوم، بل يجب وجوده كذلك، وهو كالعلم بأن لا ثاني لله سبحانه وتعالى [ولا بقاء] للإجسام به بنفي، إلى ما شاكل ذلك، وهذا السؤال إنما يتوجه إذا كان الكلام في الواحد منا، فأما الباري تعالى فالقول بأنه عالم بعلم باطل، فكيف يذكر التضايف، ويلزم السؤال والجواب وقد قامت الأدلة القاطعة [على كونه عالماً لا بعلم]؛ فكيف يضاف المعلوم إلى علمه سبحانه، وسنبين فيما بعد إن شاء الله تعالى أنه لا يجوز كونه سبحانه عالماً بعلم، فهذا هو الجواب عما سأل أرشده الله.(1/211)


المسألة الرابعة [ هل العلم عام بعموم المعلوم خاص بتخصيصه ]
قال تولى الله هدايته: هل العلم عام بعموم المعلوم، خاص بتخصيصه؛ فيكون جملة تلحقها التفاصيل بتجميل المعلوم وتفصيله؟
الجواب عندنا: إن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به كما قدمنا، ولا فرق في ذلك بين الجملة والتفصيل؛ فإن كان المعلوم مجملاً تعلق به على سبيل الجملة، وإن كان مفصَّلاً تعلق به على وجه التفصيل، فالعلم واحد، والتجميل واقع في التعلق لا في ذات العلم وحقيقته، وكذلك التفصيل، وأيضاً فإناّ لا نريد بالجملة والعموم إلا مجموع أشياء صارت في حكم الشيء الواحد لأمر من الأمور؛ فكما أن العلم بالشيء الواحد لا يدخله باب التجميل، فكذلك العلم بالجملة؛ لأنها تجري مجرى الشيء الواحد؛ فإذا لم يدخل العلم بالمفرد تجميل وتفصيل كذلك ما يجري مجراه وهو العلم بالجملة، ولأنه لو كان العلم يتعلق بما يدخل تحت العام تعلق المفردات لكان قد تعلق به على سبيل التفصيل، ولا يجوز تعلق العلم الواحد بأزيد من معلوم واحد على سبيل التفصيل؛ لأنه لو تعدى المعلوم الواحد -ولا دليل على وجوب قصره بعد تعديه- لأدى إلى كون الواحد منا عالماً بجميع المعلومات، ومعلوم خلافه، فلا بد مما قلناه أولاً وهو: أن العموم جار مجرى الشيء الواحد، فيتعلق به العلم على الوجه الذي لأجله صار في حكم الشيء الواحد، فلا يدخله التفصيل والتجميل لما بيَّنا.(1/212)

42 / 92
ع
En
A+
A-