وهذا أبلغ التصويب، فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً بأنواع الخطاب وأحكامه، وصوره وحقائقه، وذلك يشتمل على الأوامر والنواهي، والخصوص والعموم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والأخبار على أنواعها، والأفعال وتوابعها، والإجماع وما يجري مجراه، فإن كان ذلك كذلك كان للمجتهد أن يجتهد ولا يألوا وكان ما قال حقاً في دين الله تعالى؛ وعلى هذا تُحمل أقوال الأئمةٍ، لأنهم في الغاية القصوى من العلم بكتاب الله تعالى وسنة نبيهً وتوابعها، وأقوالهم حق كلها ودين، ويطلق عليها علوم آل محمدً وعليهم أجمعين ولا ينكر ذلك إلا الفرق الملعونة الطاغية، الضالة العاتية، كمرتدة المطرفية، وجهال الإمامية، ومن جانسهم من جهال الأمة. فتفهم ما ذكرنا لك في هذه الأجوبة فإنا حررناها على وجه المبادرة مع تراكم الأشغال، فنسأل الله تعالى التوفيق والمعونة، فما كان فيها من صواب فمن الله تعالى وبمنه ورحمته، وما كان فيها من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخرا، وصلى الله على محمد وآله.
كان ذلك في ذي القعدة لخمس ليالٍ خلون بالمخيم المنصور بقلحاح في الشرف المسمى شرف البياض سنة عشر وستمائة.(1/203)


مسألة [ في أهل أقيان ]
إن سأل سائل ما الطريق إلى العلم بأن أهل أقيَانٍ سبوا العترة الطاهرة، وذهبوا إلى مذهب أهل الجبر، واستحلوا إخراج الصدقة إلى غير الإمام، وهل منع الصدقة لمن يعتقد الإمامة كفرٌ، هل صح ذلك بشهادة أو غيرها من الطريق الموصلة إلى العلم حتى حل سبيهم، وكذلك الصلاة في مسجد قلحاح والظاهر من حالهم الجبر؟ ينعم مولانا سلام الله عليه ببيان ذلك، وإذا حدث من بعض الناس في المحطة ما لا يبيحه الشرع الشريف مع السبايا، وغلب على الظن ذلك، وتعين المخطئ، وتقوت الإمارة هل يجب على الإمام تعزيره وإظهاره ليتقرع الناس من مثل ذلك؟.
الجواب عن المسألة الأولى أن الظاهر من أهل هذه الجزيرة الجبر، فمن ادعى خلاف الظاهر بين عليه.
وأما وجوب إظهار الصدقة فمعلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرفها إليه، وإن كان له فهو إلى الإمام من بعده، فإن اعتقدوا إمامتنا فلم يظهروا إلينا، وإن اعتقدوا إمامة بني العباس فلم يظهروها إليهم، فكان ذلك رداً للمعلوم ضرورة من دين النبيً.
وأما السب لأهل البيت عليهم السلام فطريقه الأخبار، وقد بلغت إلينا، وقد كان رسول اللهً يفعل الأفعال بأخبار الآحاد، وهوً القدوة في الأفعال والأقوال .
وأما الصلاة في المسجد فهو متقدم، وأمور المسلمين ودار الإسلام تحمل على الصحة ما أمكن، والجبر طارئ على الإسلام، فحملناه على الأصل.
وأما الذي يحدث في المحطة مع السبايا فلم يعلم ذلك، والتعزير على الظن لا يجوز فيما هذا حاله؛ لأنه تقدير لوقوع الخطيئة، ولم يتيقن وقوعها، فكان بهتاً والسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
وهو حسبنا ونعم الوكيل
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(1/204)


كتاب الجوهرة الشفَّافة رادعة الطوَّافة
بسم الله الرحمن الرحيم
[بالله أستعين وعليه أتوكل]
[أما بعد: حمداً لله الذي جعل الحمد ثمناً لجلائل نعمته، ومفتاحاً لأبواب رحمته، وسبباً للخلود في غرفات جنته، وصلواته على رسوله الراقي من الشرف عالي ذروته، وعلى قاضي دينه، ومنفذ وصيته، علي بن أبي طالب حسامه في المعضلات الشدائد وجُنته، وعلى الزاهرة المرضية، سكنه وزوجته، وعلى سلالة رسوله وذريته، شهدائه على العباد وصفوته، الذين جعلهم أعلاماً لمنهاج شريعته، وأقماراً نتخلص بلوامع أنوارها من ظلمات الجهل وحيرته، ورحم وكرم وشرف وعظم، فإن الرسالة الطوافة أسمتت إلينا إلى أرض اليمن قاطعة خطامها، حاسرة لثامها، تقطع المجاهل والهجول، وتصعد معاقل الوعول، كم واد جزعت، ومُرتٍ قطعت، وشامخ طلعت.
تأتي على الناس لا تلوي على أحد .... حتى أتتنا وكانت دوننا مضر(1/205)


لكنها جاءت بما برَّد الأحشاء، ولم تكن كلسان الأعشى، فلما اتصلت لحسام الدين، ورأس الموحدين، أبي علي الحسن، علامة أهل اليمن، عاينت ما يبهر العقول نوراً، ويرد الطرف خاسئاً حسيراً، كسرت من طرفها، وطامنت من أنفها، وقبضت من كفها، وسلمت إليه القياد، وقالت: هيت لك يا خير هاد، حطت رحلها بحيث حط الفضل رحله، وصارت إلى من صار للعلماء قبلة، وكان يومئذ مشغولاً بتصانيف وأجوبة، لا يقوم بها سواه، ولا ينهض [بعبئها] إلا إياه، دفعها إليَّ، وقال: حلّل عقدها، وقوَّم أودها، وكنت قد اغترفت من تياره غرفة طالوتية، أفرغت علي صبراً، ومنحتني على المناضل نصراً، فتأهبت لامتثال الرسم العالي، على كثرة أشغالي، وقلة إيغالي، مستعيناً برب أزلي، قديم أبدي، فما العون إلا من عنده، وما التوفيق إلا بيده، وجاءت معصوبة تذكر مساوئ أهل العصر في الدعاوي، مع خبطهم في المغاوي، وذلك حق اليقين، في أكثر العالمين، إلا الذين استثناهم الكتاب المبين، في قوله عز من قائل: ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?[آل عمران:7]، وقوله: ?وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ?[العنكبوت:43]، وقوله: ?وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ?[النساء:83]، وقوله: ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[النحل:43] ?أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ?[النور:26]، ?وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ?[يوسف:76]، وللعلم حفظة في جميع الأعصار، ما اختلف ليل ونهار، ودار فلك دوّار، يحمون سرحه عن أسود الكفر والجحود، ويهتكون بقواضب حججهم سرادقات الشبهات السود، يصمون أوابد المشكلات ولا ينمونها، ويرمون أعراض المعضلات فلا يخطئونها، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم(1/206)


يحزنون، بصائرهم موهوبة من عنده، لما أراد من غلب جنده، وصدق وعده، قال وهو أصدق القائلين: ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173]، والعلماء ورثة النبيين، والشهداء يوم الدين، كما روي عن الصادق الأمين -صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) وعنه سلام الله على روحه الكريم أنه قال: ((العلماء في الدنيا خلفاء الأنبياء، وفي الآخرة من الشهداء)) هذا قول الرسول، وأنا أقول:] إنهم الأقلون عدداً، الأكثرون عند الله ثواباً ورشداً، قال العزيز الغفور: ?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ?[سبأ:13]، اشتق أسماءهم من اسمه، وجعلهم حفظة لعلمه، معروفة في السماء أعيانهم، منتصبة في الأرض آثارهم، محفوظة أخبارهم، مَزُوْرَةٌ ديارهم، يرغب أهل الدين في خلتهم، وتحضر الملائكة أفنيتهم، ويأنس الوحيد إلى لقيتهم، ويتوق البعيد إلى رؤيتهم، يميزون الحق من الباطل، ويؤثرون الراجح على الشائل، يرتقون الأقوال عن بصيرة ثاقبة، وَرَوِّية غير ناضبة، لا يحكمون بالأهواء، ولا يَخبِطُون خبط العشواء.(1/207)

41 / 92
ع
En
A+
A-