هذا رويناه في علوم آل محمد صلى الله عليه وآله أجمعين مسنداً، ولأن الإجماع منعقد أن الإمام إذا أكره الرعية على الصدقة ونووها ظلماً لم ينووها طاعة، فإنه لا يجب عليهم قضاؤها؛ فدل على أن الإكراه يصح فيها، ولا يخرجها من بابها بخلاف الصلاة فإنها مما لا يصح فيه الإكراه؛ لأن الإمام إذا أكرهه وفعل الصلاة ولم ينو العبادة وتأدية الفرض لم تكن صلاته شرعية، ووجب عليه قضاؤها إذا تاب؛ ولأنا نقول: لا بد أن ينوي في الوضوء الطاعة لله تعالى والصلاة، وإلا لم تصح صلاته؛ فكيف يكره على ما لا يصح عند جميع أهل الإسلام، ولو لم يكن متى أكرهه إلا أن ينتقض وضوءه ويوهم أنه باقي على الطهارة، أو يظهر أنه على وضوء وهو محدث، فكيف يتصور الإكراه على الصلاة، وإنما يجب الأمر بالصلاة مستمراً، وقد كان ذلك خصوصاً وعموماً، ومهما أمكن الفرقة الملعونة إنكاره، لم يمكنها إنكار أنا في كل جمعة نتكلم ، ونأمر، ونعد، ونوعد، ونعرف، ونبصر على المنبر كرتين -تحريضاً على الصلاة، ونأمر من يتفقد القرى والبلاد للتحريض على طاعة الله تعالى، فلسنا من رأيناه في ناحية نقول له: قم أد الصلاة، ولا هو لو قلنا له: صلِّ يقول: لا أفعل، وقد كثر الصلاح، وانقطع الفساد فالحمد لله، وصار المصلون هم الأغلب، ومن يترك مغمورا في جنب الصالحين، فالحمد لله رب العالمين، ولا يظهر قطعها في البلاد التي استقرت فيها الأوامر والنواهي النبوية زادها الله جلالة وشرفا ولا ينقطع الطارئ إليها من غيرها فلا يحسن منا أن نحارب على الصلاة مع حرب عدونا الذي قد شخص لحربنا، ولا ضعف فيه إلا أن يضعفه الله تعالى، والنبيً سيد البشر محمد بن عبد الله قد صالح بعض المشركين على الشرك، ولم يناقشهم فيه، كبني مدلج، وبني كعب من خزاعة، وغيرهم من قبائل العرب، وحارب الفريق الآخر وهو أكثر من ترك الصلاة، ولم ينكر ذلك عليه المسلمون وإن أنكر ذلك منكر، فإنكاره ذلك كفر، ولم يقدح ذلك في نبوته؛ فكيف(1/198)
تنكر هذه الفرقة الملعونة الكافرة على أئمة الهدى ما فعل رسول اللهً وهو الهادي إلى الرشد، والدليل إلى الله تعالى ما هو أعظم منه، ونحن لأكثر أهل العصر مهادنون، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو ثني لي الوساد لقد غيرت أشياء فدل على أنه مغض على أشياء يريد تغييرها مخافة تكثير جمع العدو؛ فأغضى عليها، فذلك يجوز لإمام الحق إذا خشي خللاً في الدين.
فانظر في هذا أيها الناظر بعين التهذيب لا عين التكذيب، و[عين] التدبير والتفكير، لا عين البغض والنكير.(1/199)
[ اختلاف نظر الأئمة عليهم السلام ]
وأما سؤاله عن اختلاف نظر الأئمة عليهم السلام فظهوره كفى عن كشفه؛ لأن أهل المعرفة قد اشتركوا هم ومن لا معرفة له في العلم باختلاف أقوال الأئمة عليهم السلام والعلماء، والتحرير والتجريد، والمنتخب فيها أقوال روتها الثقات عن الأئمة عليهم السلام على حد واحد، وهي مختلفة بل الخلاف واقع في قول الإمام الواحد، وللهادي عليه السلام أقوال مختلفة، والخلاف بينه وبين جده القاسم بن إبراهيم عليهم السلام معلوم مبين.
وكان محمد بن إبراهيم الإمام القائم في الكوفة أيام أبي السرايا الذي لم ينل أحد من هذه الذرية في دولة الأموية والعباسية ما نال عليه السلام فإن البلاد التي ملكها آل أبي طالب في أيامه هي: الكوفة، والبصرة، وواسط، والأهواز، وكرمان، وفارس، والحجاز، واليمن، ودنت الجنود من بغداد فوصلت إلى نهر صرصر، وأحصيت القتلى في أيامه من جنود بني العباس المفقود من الدواوين مائتا ألف جندي غير الأتباع، فكان لا يرى البيات، ولا يجيزه وتبرأ من أبي السرايا لما بيّت أزهر بن زهير وأصحابه في سوق أسد، والهادي عليه السلام كان يجيز البيات وفعله رواه السيد أبو طالب عليه السلام عنه وهو: إن الأمر لما عظم على أصحابه من حال القرامطة قال: أتجزعون من عدوكم وأنتم ألفا رجل؟ قالوا: نحن ألف واحد. قال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم. قال له أبو العشائر: يا بن رسول الله ما في الفرسان أشجع منك، ولا في الرجالة أشجع مني، وقد رأيت أن ننتخب ثلاثمائة من العسكر، ونسلحهم، ونقويهم من أسلحة الباقين، ونبيت القوم؛ فإنا لا نبقي منهم إلا هكذا. فقال: الرأي ما رأيت. وبيَّت القوم فقتلهم.(1/200)
ومحمد بن إبراهيم كره البيات كما قدمنا ذكره؛ لأن أبى السرايا أتى يهنئه بالفتح قال: الحمد لله كيف صنعت بالقوم، قال: جاءونا فيما لا قبل لنا، فعلمنا أنا لا نقوم بقتالهم إلا هكذا فبيتنا القوم، فنصرنا الله تعالى عليهم، فقتلناهم، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعله أبو السرايا ألم تعلم أنا لا نقاتل القوم حتى ندعوهم إلى الله تعالى ثلاثا، فإن أجابونا فإخواننا، وإن أبوا استعنا بالله عليهم، ألم تعلم أن فيهم العبد والأجير، والتاجر، ومن لا ذنب له؟ قال: يا بن رسول الله تدبير الحرب أوجب هذا، ولا أعود إلى شيء تكرهه.
فهذه أحكام كما ترى بين أهل البيت تختلف، وقد وقع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وبين التابعين، وهو باق بين أهل العلم إلى الآن، لا يفسق فيه ولا يكفر فيه ذو معرفة، بل هو سعة ورحمة.
وأما المسائل التي لا يجوز الخلاف فيها، ولا يسمع فيها اجتهاد فهي مسائل الأصول، وما علم من دين النبيً ضرورة، وما اجتمعت عليه الأئمة، وما عدا ذلك يجوز فيه الاجتهاد لمن جمع شرائط الاجتهاد، وإجماع العترة عليهم السلام حجة بأقوى الأدلة، وقد ذكرنا ذلك فيما وضعنا من كتب أصول الفقه، وأجوبة السائلين؛ وعلمنا من أهل البيت عليهم السلام أنهم لم يقطعوا بفسق من خالف في شيء من إجماعهم، وقطعوا على فسق من خالف جميع الأمة الذين سادتهم، فحصل لنا من علمهم هذه الفائدة في أن مخالفيهم في الفقهيات لا يقطع بفسقهم، ولولا ذلك لقطعنا بفسق من خالف إجماعهم على أبلغ الوجوه؛ لأن الدليل على أن إجماعهم حجة إن لم يكن أقوى من إجماع الأمة فليس بأضعف، ومن نظر ما سطرنا فيه علم صحة ما قلناه.(1/201)
وأما الذي أوجب اختلاف نظر الأئمة عليهم السلام وعلماء الأمة؛ فإنما هو رحمة الله تعالى، وتوسعة عليهم بأن جعل الأدلة الشرعية محتملة، فصار لا يسمع أن يبدو للإنسان ما لا يبدو لصاحبه؛ لأن أدلة الشرع الشريف إمارات تنتهي إلى غالب الظن بخلاف الأدلة العقلية، وقد يتقوى ظن أحد المكلفين لأمارات لا يتقوى لها ظن الآخر، وهذا معلوم لمن كان يعرف هذا الشأن، وقد يصل إلى أحد المجتهدين من الآثار النبوية ما لا يصل إلى الآخر، لسعة العلم فيقضي ما لا يقضي به الآخر، والكل فيه أجازه الشرع الشريف زاده الله جلالة وعزاً وهو مأخوذ عن خاتم المرسلينً فإنه لما بعث معاذ بن جبل إلى أرض اليمن قال: ((بما تقضي بينهم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما وفق له رسول اللهً)) .(1/202)