[ ما الحجة على جواز قتل المطرفية ]
وسألت: ما الحجة على جواز قتل من يقول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللهً من المطرفية، ويظهر البراءة من مذهبهم، ويظهر اعتقاد الإمامة بعد القدرة عليه، ما الحجة على ذلك من الكتاب والسنة أو سير الأئمةٍ، وما يلحق بهذا من أنا إنما أكرهنا على الزكاة، ولم نكره على الصلاة وهي عمود الدين، وما يلحق بذلك ويقع البيان في اختلاف نظر الأئمة عليهم السلام بحسب اختلاف الأحوال والأوقات، وما الذي لا يجوز اختلاف فيه، وما يجوز [اختلاف] نظرهم فيه، وما الذي أوجب اختلافهم؟.
الكلام في ذلك : إن [قتلنا] لمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله غير مستكثر لنا؛ لأن أبانا علي بن أبي طالب عليه السلام هو إمام الأئمة، وسيد الأمة، ووصي رسول اللهً والإمام المعصوم، وشبيه هارون، والمنصوص عليه يوم الغدير، ما قتل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الجمل وصفين والنهروان؛ بل هم من الصحابة والتابعين الذين ورد فيهم عن رسول اللهً الآثار الشريفة، وأي فضل يشبه فضلهم، وأي نبل يشبه نبلهم، فَقَتَلَهم، عليه السلام بلا خلاف بين العقلاء في ذلك، وكان قتله لهم شرفاً عند الله تعالى وعند الصالحين لما فيه من الحديث عن خاتم المرسلين في علي عليه السلام أنه بُشِّرَ بأنه يقتل الناكثين، وهم: أهل الجمل، والقاسطين وهم: أهل صفين، والمارقين وهم: أهل النهروان؛ كل هؤلاء يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويجتنبون المحرمات، ويقطعون آناء الليل وأطراف النهار عبادة.(1/193)


وأما من أظهر البراءة منهم واعتقاد الإمامة بعد القدرة عليه؛ فإن غلب في الظن أن إظهار ذلك تديناً وخوفاً لله تعالى وطاعة قبل منه، وخلي سبيله؛ وإن غلب في الظن أنه منه تفادٍ من القتل والسبا، لم يقبل منه؛ لأن المعلوم وجوب قتله، واستباحة ماله وآله، ولا يجوز الخروج عن ذلك إلا بأمر شرعي، وأقل ما نفذت به الأحكام الشرعية في الشرع الشريف ما يوجب غالب الظن، فإذا غلب في ظن الإمام أو الوالي صدقه حمله على الصدق، فإن لم يغلب في ظنه تصديقه لم يجز له أن يصدقه؛ لأن تصديق من لا يغلب على الظن صدقه قبيح، فكيف يكون القبيح واجباً، ويجوز فعله فلا يكون لإظهار ما أظهر حكم، وقد قال الله تعالى: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?[المنافقون:1]، فكذبهم في أمر ظاهر حق وصدق، لما كان باطنهم في ذلك خلاف ظاهرهم فكذلك الفرقة المطرفية، الكافرة الشقية، الضالة الغوية، تظهر -وقد ظهر ذلك للمسلمين- إيماناً وتبطن كفراً، وقد اتبعت في ذلك واحدة بأخرى، وكررت النكث شفعاً ووتراً، وذلك معلوم لمن عرف أحوالهم، فكم بايعوا، وكم نكثوا، وكم أظهروا التوبة نفاقا، ثم ارتدوا ظاهر الأجل بسبب ظهورهم، ولقد نافقنا أهل (عوشة) من عشاش كفرهم يقال لها: (إلتو) ست عشر سنة، فلما ظهر شقيهم المسمى بالمشرقي تجمعوا.(1/194)


وحكي عن بعضهم أنه قال: لما خرجوا من (عوشة) كفرهم، عبد المطرفية لا علة من نفاق، ولقد حكي من طرق شتى من كبارهم من النفاق ما لم يكن لنا في حساب، وكنا نحملهم على الصلاح فبان فسادهم، وظهر عنادهم مراراً كثيرة؛ فما حملناهم على سلامة، [إلا] وتعقب ذلك نفاقهم، فإلى الله المفزع منهم، ومن أمثالهم، وبه نرجوا تعجيل انتقامهم، وقرب زوالهم؛ فلقد ملئوا كثيرا من قلوب الأمة شقاقا، وأشربوا أفئدتهم نفاقا، فهم بهذه القصة شر البرية؛ لأن الله تعالى يقول: ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ?[النساء:145]، فلولا قبح النفاق ما كان في مقابلته هذا العذاب الشديد، ولما جعله الله تعالى صفة لازمة لأقبح الكافرين، بقوله تعالى : ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِم إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[التوبة:77]، فقد أظهر العباس رضي الله عنه للنبيً على الحق، وما أخرج إلا كرها، فقال النبيً: ((ظاهر أمرك كان علينا))، ولم يقبل خلاف الأول عند القدرة، ولما عفا عن أبي عزة ومن عليه، وظفر به مرة أخرى، فسأله أن يعفو عنه فقال: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ والله لا مسحت عارضيك في أندية قريش تقول خدعت محمداً مرتين اضربوا عنقه)).
والهادي عليه السلام لما دخل وادي أملح في بلاد وايلة جعل يتنقل في قراهم ودورهم، يقطع أعنابهم ونخيلهم، ويخرب منازلهم -وهم يجأرون إليه بالتوبة وقبول الأمان- فلم يقبل منهم لما يعلم من خبث الخلق وشرارتهم، وهذا موجود في سيرته عليه السلام معروف عند من يعرف أحواله وأقواله، ولم يقبل توبتهم لما يعلم من خبثهم وشراراتهم؛ هكذا ذكره مصنف سيرته عليه السلام، وجرت كتب أبي بكر إلى أمرائه في حرب الردة، وأن لا يقبلوا توبة متمرد فلم ينكر أحدٌ من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع.(1/195)


ونحن نروي بالإسناد الصحيح إلى محمد بن جرير رفعه إلى أبي بكر: إن توبة المتمرد لا تقبل؛ فلا يقبل توبة متمرد؛ ولأن جنود الأسود الكذاب العنسي -لعنه الله تعالى- لما قتل في صنعاء تذبذبت جنوده بين نجران وصنعاء، وهم يعرضون التوبة، فلم يقبل منهم بمشهد من الصحابة، ولم ينكر أحد، ولم تزل السيوف تأخذهم وهم يقتلون ويقتلون، ويجأرون بالتوبة والإسلام، فلم تقبل توبتهم إلى أن قتل آخرهم في طريق الأخابث؛ فاجتث دابرهم -أخزاهم الله تعالى- وهم على متون الخيل، والسيوف في أيمانهم يمنعون بها سربهم، ويكشفون من بين أيديهم؛ فكيف يكون حال المطرفي المخذول، الذي يظفر به الحق فيظهر التوبة، واعتقاد مذهب أهل الحق وإمامة الإمام.
هل ألقيت هذه العلوم في قلبه إلقاءً؟ أم هي وحي؟ أم أنعم النظر عندما أحيط به، فذلك الوقت وقت الشغل لا الفكر. فهذا أمر عجيب؛ إنما يجوز على من حرم التوفيق ولم يرزق لذة التحقيق.(1/196)


[ الإكراه على الزكاة ]
وأما قوله: لِمَ أكره الإمام الرعية على الزكاة دون الصلاة؟
الكلام في ذلك: أن الزكاة يمكن الإكراه عليها، وتصح في الشريعة من دون النية، ولهذا يجب على اليتيم والمجنون، وساقط التكليف إخراج الزكاة، ويلزم ذلك وليّه الإمام أو غيره، وقد أخرج علي عليه السلام زكاة أموال آل أبي رافع -وهم يتامى في حجره، فلما بلغوا، أو آنس رشدهم، أخرج أموالهم فوزنت فنقصت، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه أموالنا ناقصة. فقال: احسبوا صدقتها لما مضى من السنين، فحسبوا فوجدوا الناقص الصدقة بغير زيادة ولا نقصان. فقال: أترون عند علي بن أبي طالب مالاً لأيتام تجب فيه الصدقة لا يخرجها.(1/197)

39 / 92
ع
En
A+
A-