[ حاتم بن دعفان ]
وسألت عن حاتم بن دعفان، وقتله صاحب حضور، وهو محب للإمام وفيه ثلاثة وجوه:
أحدها: عن قتله قاتله، وتسليمه إلى ولي الدم مع التمكن من المطالبة بذلك.
والثاني: أمان الإمام، [والأمر اءكتبوا بطرد القتالة] لأنهم قتلوه في ذمة، وبعد ذلك بمدة قريبة حلوا في بعض الحصون التي للإمام واستخدموا، ولم يقع إنكار في حق العقد بطردهم، وأمنوا بعد ذلك وخالطوا.
الثالث: إن الإمام أمر بقسم دية العيب نصفين: فنصف للورثة فصار إليهم، والنصف الثاني جعله لأهل الذمة قبضه والي الحصن.
الكلام في ذلك : إن قول السائل إن حاتم بن دعفان محب للإمام مستحيل، لا حقيقة له بل هو ممن كان يرتكب العناد، ويسعى بالفساد، ويمنع الصدقة ضرورة مع ضرورة الحال، قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تأمل حبه .... هذا محال في المقال بديع
هيهات لو أحببته لأطعته .... إن المحب لمن يحب مطيع
وكيف تصح محبة المذكور بغير طاعة.
وأما قوله: ليسلم قاتله إلى ولي الدم مع التمكين، فلا شك في التمكين؛ ولكن من أين أن قتله قد ثبت عندنا على وجه يصح تسليم المدعى عليه القصاص، ومن أين جاز للسائل أن يسأل قطعا على هذه الصورة؟!
فأما نحن فإلى الآن ما صح عندنا هذا، والقوم المدعى عندهم القتل انهزموا إلينا وقالوا: إنا بالله وبالإمام يستوفي لنا الحق، ويوفي منا فما عندنا من هذه الدعوى شيء؛ فهذا قولهم، ويمكن أن يكونوا مبطلين أو محقين كلا الأمرين نحتمل، فما الحكم أيها السائل والصورة هذه؟ والآن هم بحكمنا فإن أردت كشف الإشكال فتوكل لأحد الفريقين فما أمضى الحكم أمضيناه إن شاء الله تعالى، فإن تركت الأخذ سبيلاً إلى الامتناع فما يلزمه توجه السؤال.(1/188)


وأما العقوبة فنحن نرى جوازها للتهمة وكانت إلى بيت المال فرأينا صرف نصفها إلى أولاد المقتول استطابة نفس، وتسكين لقلوب الدهماء، والكل يتظلم إلى الآن المدعى عليه والمدعي، وكون المدعى عليه في بعض الحصون أقرب إلى إيفاء الحق منهم أي وقت توجه فيه الحكم، وليس بمجرد الدعوى تحرم المعاشرة.
وأما أمرنا بطردهم فظننا أنهم غير منكرين للقتل، بل معترفون بالظلم، فأردنا إهدارهم لمن قدر عليهم، وتشريدهم في الآفاق فما شعرنا حتى وصلوا وقالوا: نحن عبيد الحق وخدمه، ونحن ننظر في الرسم ونمتثله، فماعسى أن يفعل فيمن هذا قوله، وما يرى السائل أن يتوجه عليه من الحكم النبوي صلوات الله على صاحبه وسلامه بعدما ذكرنا، وهو قريب الدار فيبحث عن تصحيح هذا المقدار.(1/189)


[ حدود طاعة الولاة وإنكارهم ]
وسألت: ما فرض المؤتم إذا صحت عنده إمامة الإمام التسليم في كل فعل عمله من الولاة، أو المتصرفين أم المراجعة للإمام عليه السلام؟
الكلام في ذلك : إن الأمر إذا كان محتملا كان [فرضه] التسليم، وإن كان أمراً ظاهر القبح لزمه إنكاره حتى يتبين له وجهه، وإذا أراد البيان من الإمام ليزداد علمه أو ينكشف له وجه ملتبس فلا بأس في ذلك وهو الأولى بل الواجب.
وسألت: هل يأثم إن ترك الإنكار والسؤال للإمام أم لا إذا كان الفعل منكراً أو محتملاً، وإذا لم يؤثر إنكاره على الفعل الوالي، هل يجب عليه تعريف الإمام بذلك أو ما فرضه؟.
الكلام في ذلك: إنه إن ترك الإنكار في أمر ظاهره القبح لم يجز له ذلك [لأن] إنكار المنكر واجب بكل حال على الفور لا تراخي فيه؛ لأن المراد ألا يقع المنكر، وإن كان محتملاً لم يجز له إنكاره حتى ينكشف الحال لأنه يحمل على السلامة أفعال الغير من المسلمين ما أمكن، ومتى لم يؤثر إنكاره على الوالي وجب عليه اطلاع علمه إلى الإمام؛ لأن ذلك من الأمور المهمة، ولا يكشف غامضها إلا للإمام في مثل ذلك فاعلم ذلك.
وسألت: إذا لحق المنكر ضرر من المتصرف أو الوالي في بعض مصالح دنياه، هل يسقط عنه إنكار ذلك أم لا؟(1/190)


الكلام في ذلك: إن الواجب إنكاره وضرر الدنيا لا يسقطه إلا أن يكون ضرراً مجحفاً يؤدي إلى التلف وما يقاربه؛ وإنما قلنا ذلك لأن الدنيا تترك للدين، فرضا من رب العالمين، لأن الله تعالى قد توعد من آثر الحياة الدنيا الوعيد الشديد لقوله سبحانه وتعالى: ?وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى?[النازعات:38،39] والدين لا يترك للدنيا بإجماع المسلمين؛ ولأن إيثار الدنيا هوى نفوس المكلفين، وقال سبحانه وتعالى: ?وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى?[النازعات:40، 41] وقال رسول اللهً: ((اجعل مالك دون دمك فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك)) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه المعلوم من الصالحين وقد ذكر رب العالمين بقوله تعالى: ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ?[الحشر:8]، وبقوله سبحانه: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ?[التوبة:111]، قال المسلم: بل نفسه وماله لله تعالى، وفي مقابلة ذلك الجنة التي وعد الله تعالى من أطاعه، وآثر مراده على مراد نفسه وأهوائها.
وسألت: إذا لم يؤثر الإنكار مرة واحدة هل يجب إعادته والتعريف به لفاعله، أو لئلا يعود إلى مثله أم لا؟ فإن وجب فما الحجة؟ وإن لم يجب أدى إلى سقوط الأمر والنهي؛ لأنه بالمرة لا يمتنع، وبالتعريف مراراً يغلب على الظن أنه لا يعود إلى أمثاله؟
الكلام في ذلك: أن المقصود بالنهي عن المنكر أن لا يقع المنكر، والمرجع في ذلك إلى غلبة الظن لتعذر حصول الطريق إلى العلم، فإذا غلب في ظنه أن تكرار النهي يؤثر وجب التكرار؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا كوجوبه، فاعلم ذلك.(1/191)


[ عود إلى أخذ أكثر من الزكاة ]
وسألت: عمن أخذ أكثر من الزكاة، وما يلحق من المعونة واللاحق، وهو على الرعية في أكثر الأوقات أضر من الخرص؟.
الكلام في ذلك: إن هذا الفصل قد تقدم الكلام فيه، والاحتجاج بما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته، ولا فرق بين أن تسمى الزيادة معونة أو لاحقا فاعلم ذلك. ولا بد أن تضر الرعية بمعنى أنه يشق عليها، والتكليف شاق لا إشكال فيه، ولذلك كثر فيه الأجر؛ ولكن بين المشاق فرق، يعلمه أهل العقول. هذه بلادنا التي تأملت لها هذه الفرقة الملعونة عامرة بعد أن كانت دامرة هامدة، آمنة بعد أن كانت خائفة، لا يعلم فيها ظهور المنكر بعد أن كان ظاهراً لا ينكتم؛ فهلا اغتفرت هذه المشاق لهذه المصالح الظاهرة؟ فلو أن أهل البلاد كانوا مع المفسدين الظالمين في أعظم الرفاهية إلا أن المنكرات ظاهرة، والمعاصي شاهرة لكان على المسلمين إنفاق الأموال الجليلة لإعزاز الدين، وقطع دابر المعتدين، فما هذا العمى والشقى، وكثرة الجهل وقلة التقى، فالله المستعان وعليه التكلان.(1/192)

38 / 92
ع
En
A+
A-