نبتة الربيع عند إجماعه، فما سدوا ثغرا، ولا استنزلوا عدوا من الظالمين قهرا، ولا أحدثوا فيها قتلا ولا أسرى، ولا أزالوا من شيء من أرض نكرا، ولا حموا من أنفسهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس بذمة أو جوار كما نعلمه منهم، ويعلمه كافة من عرفهم.
فأما حبل من الله تعالى فلا حبل، فهم أسوأ في هذا الباب حالاً من اليهود والنصارى والمجوس وسائر أنواع الكفر، فإن لهم من الله حبل الذمة، وأشعارهم تشهد بذلك إلى كل قبيلة أشرافهم وعوامهم، أجوارنا لا ينكر ذا منصف هل يكون من هذه حاله يعترض على من سد الثغور، وأصلح الأمور، وحفظ الجمهور، وأسر عفاريت الظالمين، واستعبد شياطين الآثمين، وطهر الأرض من أدناس طغاتها، ونفى أرباب الفساد من منوع جهاتها، وأمن السبل المخوفة على مرور الأعصار، وهزم الجنود الكبار، يشهد بذلك (ذيبين) و(عفار)، وصنعاء وحراز أو ذمار، وأنفذ الأحكام على فرق الكفار، بالقتل والسبا والإسار، حتى علا منار الدين على كل منار، وسما فخاره على كل فخار، فمن كان يطلع بذلك أيها الأشرار، نبئوني بعلم إن كنتم صادقين، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.
شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر
فليتأمل العاقل، الطالب النجاة الفصل، ففيه شفاء عليل الطالب لرشده، الذي يعلم به أن القوم لا يطلبون دينا، ولا يحالفون يقينا، وإنما قصدها التشكيك، ودينها الشك، ومحاولتها التغليظ، ومذهبها الإفك، فسلام الله على غيرهم ما أكلّ مداهم، وأقصر مداهم، حاولوا مناوأة آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بجدودهم الغابرة، وعزائمهم الفاترة، وتجارتهم البائرة، وصفتهم الخاسرة، والله لهم بالمرصاد، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.(1/183)


[ قتل الأبرهي والنقيب ويحيى بن أحمد ]
وسألت: ما الحجة على جواز قتل جماعة وهم آمنون معاشرون كالأبرهي، والنقيب، وكذلك قتل يحيى بن أحمد؟
الجواب في ذلك: إن من أظهر فساده، واتضح لصاحب الأمر عناده، جاز قتله، وتنكيله، وتذليله، وقد قال الله تعالى: ?لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً?[الأحزاب:60،61]، ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى أشعر نبيهً بأن من ذكرهم إن لم ينتهوا عما كانوا عليه من الفساد أغراه بهم، والإغراء أغلظ حكما من [الأمر] يعرف ذلك أهل العلم، وقضى بقتلهم وهو لا يقضي إلا بالحق بأخذهم وقتلهم، [وكثره] وعظمه بلفظ التفعيل يعرف ذلك أهل اللسان.
والمعلوم ممن عرف أحوال الأبرهي والنقيب أن فسادهما كان من أعظم الفساد، وعنادهما من أشد العناد.
تولى النقيب وأراد توطيد دولة الغُز في بلاد الطرف بكل مرام، ولما ظهرت دولة الحق خضع لها بعض خضوع، وهو في نهاية المكر، واستشعار الغدر.
وأما الأبرهي فلا يجهل أحد من أهل المعرفة فساده وعناده وما كان منه في تلمص وصعدة من الشقاق فأحاطت به ذنوبه وأهلكه حوبه.(1/184)


والهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام هو القدوة لأهل الإسلام، فالمعلوم في سيرته عليه السلام أنه لما تمكن في صنعاء وظهرت يده وبلغه مكر آل يعفر وآل طريف والفجائم فلم يتمكن منهم إلا بأن دعاهم إلى العطاء، فلما استقر بهم القرار، في بحبوحة الدار، أمر بقبضهم فكبلوا في الحديد، وغللوا إلى الحبس الشديد، فشحن بهم سجون صنعاء، وسجن ظهر، وسجن شبام، وأخذ دوابهم، وسلاحهم، وقاطبة من أموالهم فرقه في المسلمين؛ هذا وهم في نهاية الأمن والتقربة، فجاز له ذلك لما علم خبثهم وشرارتهم، وما المذكوران بأفضل من أولئك، ولا أقرب إلى الحق وهو عليه السلام قدوة لأهل الإسلام.(1/185)


وأما يحيى بن أحمد فالكل يعلم اتصاله بالغز، وكونه من جملتهم، وكتبه شاهدة بذلك ما كان [يُعلْوِنُها] إلا بالملكي المعزي، ومنها ما هو موجود الآن، وحلف لهم، وخرج إلى البلاد فكل من لقيه وغرضه الطاعة كان يحلف للملك المعز قال: ما أحلف إلا له؛ وهذا ظاهر من أمره، معروف من قوله وفعله، ثم طلع الهجرة، فنصب الحرب، فحاربناه، واستعنا بالله عليه، فأظهرنا عليه، فله الحمد كما هو أهله ومستحقه، فأخذناه قهراً بالسيف، وأوثقناه بالحديد، ورسمنا عليه بقاء من المسلمين فاغتالهم بالبنج وكان بعضهم قد عصمه الله تعالى بالاحتراز من مكيدته، فلما اختل أمر أصحابه صاح بمن يعينه، فأمرنا من أغار فأتى وهم على حالة ضعيفة، منهم من يحتذي عمامته، ومنهم من يقحط الجدر قال: يأخذ شسعاً لنعله، ومنهم من وصل [في] البركة العظيمة فأتى يحكي أن ماءها قد غار؛ فلما بان مكره بعد الأسر حل قتله وإهلاكه على كل قول من أقوال أهل العلم؛ ولأن الحرب قائمة بيننا وبين حزبه، وقتل من تلك حاله جائز ما دامت الحرب قائمة يعرف ذلك أهل العلم؛ ولأن الهادي عليه السلام قتل واليه على شبام، وأتى أهل ظهر إلى ظهر منهزمين فقالوا: هذا والي الهادي قد قتل، وانتقصت البلاد فنحتاج نزحف على والي البلد لينهزم، فيخرج من كان عنده من آل يعفر وآل طريف والجفاتم من السجن فنتحد بداعية القوم لرجوع دولتهم، فصاحوا: السلاح السلاح، ودولبوا فانهزم الرجل، ودخل البلد أهل الفساد إلى حالهم الأولى؛ فلما بلغ العلم إلى الهادي سلام الله عليه كتب إلى ابن عمه محمد بن سليمان واليه على صنعاء:(1/186)


أما بعد فإياك [ثم] إياك أن تفعل كما فعل صاحب ظهر، فلو كان رجلاً عندما صاح القوم: السلاح السلاح رمى إليهم برؤوس أصحابهم [فما] كان من هذا الأمر شيء، فهل رأيت أمر الهادي عليه السلام بقتل الأسارى لحادث حدث من غيرهم، وذلك لأن قتلهم جائز في الأصل لولاذلك لما لام على تركه، وهو إمام هدى، قدوة في الدين ورسول اللهً سيد الأولين والآخرين قتل من الأسرى طائفة منهم: عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس قتله علي بن أبي طالب سلام الله عليه والنعمان بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبدمناف بن عبدالدار قتله علي عليه السلام صبراً فقتلهم بعد الأسر، وهذه براهين ظاهرة بعضها كاف في هذا الباب لذوي العقول والألباب.(1/187)

37 / 92
ع
En
A+
A-