[ حكم أخذ الزيادة عن الزكاة ]
وأما ما ذكره صاحب المسألة من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكره أحداً على [زايد] من الزكاة مع شدة الحاجة إلى ذلك وكثرة مال بعضهم، وقد روى [منه] السلف؛ وهذا من عجائب السؤال الذي خرج عن طريق الاستدلال، وإنما هو قول من لا يعرف حال السلف، فتردى في مواضع التلف، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مهاجرون وأنصار.
فأما الأنصار فهم الذين ورد فيهم مدح العزيز الجبار بقوله تعالى: ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ?[الحشر:9]، وكان من حالهم: أنهم قسموا أموالهم نصفين بينهم وبين المهاجرين، وخيروا المهاجرين أي النصفين شاءوا، وشرطوا لهم إصلاح النخيل بأيديهم وعبيدهم، وقاسموهم في المنازل نصفين، ومن كانت له زوجتان نزل عن إحداهما؛ لأن المهاجرين هربوا من بلادهم وخلفوا نساءهم واحتاجوا إلى النسوان فنزل لهم الأنصار عن نصف نسائهم.
وأما المهاجرون فلا شك في غنى كثير منهم؛ ولكن هل كانت أموالهم لهم؟ المعلوم أن أبا بكر أسلم وهو من أغنياء قريش، واختلف في مبلغ ماله فقيل: ثمانون ألفاً فأنفقه حتى انتهى به الحال إلى أن بقيت له عباءة إذا ركب حلها وإذا نزل أبعد خلالتها واشتمل بها، وجهز عثمان بن عفان جيش العسرة بتسعمائة بعير وخمسين بعيرا وتمم الألف بخمسين فرساً كل ذلك من صميم ماله، ولما أقبل الجيش وقد مستهم الفاقة لقاهم منه ناقة محملة مخطومة، فوهبها لهم فأكلوا ما عليها ونحروها، إلى غير ذلك من أفعالهم مما لو ذكرناه لطال الشرح واتسع الحال [وفيما ذكرنا ما يغني طالب الاستدلال والمميز بين الحرام والحلال]؛ فهل من هذه حاله أيها السامع العاقل يحتاج إلى الإكراه أو يطلب به أزيد من الزكاة! أين العقول التي تعقل معنى السؤال، وتفرق بين الهدى والضلال.(1/173)
وأما أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه استلف فذلك كانت حاله منة من الله تعالى على عباده ليقتدي به المؤمنون، ويتأسى به الصالحون؛ وإلا فلو أراد أن يسأل الله تعالى بأن تكون الجبال له ذهباً وفضة لفعل، فمات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير رحمة من الله تعالى ليتأسّى به الفقراء من الصالحين، وإلا فالأموال كانت تأتي إليه كثيرة عظيمة؛ وصل إليه قبال من البحرين وهو ثمانون ألفاً، فقسمهً غَرفاً غَرفا وكفاً [كفاً]، فما قام من مقامه ومنه درهم فرد، حتى أعطاهً وكذلك فعله في كل مالٍ، والحمد لله فهذا واضح للمتأملين، وما يعقلها إلا العالمون.(1/174)
[ الحجة على جواز تحريق المهجم ]
وسألت: ما الحجة على جواز تحريق المهْجَم وفيه المشائخ والحُرُم والأيتام الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
الكلام في ذلك : إن حريق المهجَم إنما كان لما قصدها جنود الحق وفيها جند الظالمين فلقوهم دونها، ونصر الله عليهم فقتلوهم وهزموهم إليها فلما دخلوها قوتلوا في أزقتها، وضاق المجال، وتعذر أكثر القتال، فلما كان ذلك كذلك حرقوا البلد ليتصلوا بالعدو الظالم من غير قصد ولا مضرة طفل ولا حرمة ولا يتيم، ومن الشرع المعلوم أن البغاة والفساق والمشركين لو تترسوا بالمؤمنين أو الأطفال أو النساء ولم يتمكن المحقون من قتلهم إلا بقتل الأطفال والمؤمنين والنساء لجاز ذلك للمحقين قتلهم ليصلوا إلى أعداء الله الظالمين، فكيف إذا لم يقصدوا، فهذا جواب على أغلظ حكم يكون علينا.
فأما إذا رجعنا إلى أن مذهب أهل البلد مذهب الجبر والقدر وعلمنا أن بلاد الجبرية والقدرية عند القاسم والهادي والناصر عليهم السلام دار حرب لا يختلفون في ذلك، ولا يختلف أتباعهم من أولادهم سلام الله عليهم وشيعتهم رضي الله عنهم في ذلك، ومعلوم أن دار الحرب لا يتوجه فيها هذا السؤال رأساً، ومن ذلك أن البلدة ما حرقت إلا بعد تمييز أعدائها من ضعفائها؛ فمنهم من دخل جامعها ومساجدها فما لحقهم ضرر، ومنهم من خرج من البلد إلى البادية، ولم يبق إلا الجند الغوي، ومن شايعهم من كل ردي، فكان الحريق للبلد والقوم إجماع من أهل العلم على هذه الصورة، وهذه رواية قصة المجاهدين، والذي أتينا عليه السؤال رواية الأشرار المحاربين، فأي الروايتين أولى بالقبول عند أهل العقول.(1/175)
[ حكم إكراه الناس على الضيفة ]
وسألت: هل يجوز للمصدق أو الجندي أو الوالي إكراه الناس على الضيفة سيما المصدق، فإن الهادي عليه السلام منع من ضيفته على سبيل الإكراه والاختيار لما فيه من الإيهام فما الحجة؟ وكذلك الحاكم إذا أتى [إلى] بلدة وضيفه كل واحد من الخصمين إلى أن يكمل الخصمة، وهل يستوي في ذلك المنصوب وغير المنصوب أم لا؟ وهل يجوز للإمام أن يأذن لجميعهم في ذلك، فما الحجة عليه من سير الأئمةٍ؟
الكلام في ذلك : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن نزول المصدق على أرباب الصدقة، وأن لا يكلفهم شيئاً من مؤونة نفسه، وهو صلى الله عليه وآله وسلم معلم الدين، وهادي العباد إلى الرشد؛ ولا شك أن الجباة الذين كان يأمرهم إلى الأحياء بعد المواشي في القفار، ويلزمون لهم المياه، والجابي على هذه الصورة يحتاج يضيف الذين أخذ منهم المال لا يضيفونه؛ لأنه صار أكثر منهم مالاً، وهو مال الله تعالى لأهل الشهادة فيه نصيب على شروط.
وأما أهل القرى ووالي الصدقة أو الوالي إذا وصل قرية لو امتنع من ضيفته أهلها لاستقبحوا ذلك، واستوحشوا منه، ونفرت قلوبهم عنه، والعرف [جارٍ] فالحكم له، وتختلف الأحوال بحسب ما يعلم.(1/176)
وأما طريقة الإكراه فالأمر في جوازها والمنع منها قد سبق فيما تقدم من المسائل؛ لأن الإمام إذا جاز له أخذ الأموال لصلاح الأمة إكراهاً فسواء كان ذلك ضيفة أو مالاً [خاصا] أو غير ذلك، وقد تقدم من الاستدلال على هذا الشأن ما في بعضه كفاية لمن كان له قلب رشيد أو ألقى السمع وهو شهيد، وفعل الهادي عليه السلام حق ودين، وإذا رأى الإمام المنع من ذلك فله أن يفعل ذلك ولكن ما فيه من الدليل؛ فلو أنه عليه السلام صرح بأني منعت من الضيفة لأنها لا تحل [لحمل] ذلك على أنها لا تحل عندي ولا في اجتهادي، وذلك لا يمنع غيره من الأئمة والمجتهدين من أن يحلل نظره ما حرم نظر الهادي -سلام الله عليه- كما يعلم أن ذلك قد كان في الفروج وهو أعظم المستعملات حكما فأحل الهادي عليه السلام وطء من طلقت ثلاثاً بلفظ واحد على وجه الرجعة، وحرمه غيره من الأئمة عليهم السلام والكل حق لا ينكره ذو معرفة، وإذا نزل الحاكم بلدة فله أن يمتنع من ضيفة الكل [لايضطافهم، وله أن يضطاف] الكل على السواء، ولا يجوز له أن يضطاف أحد الخصمين دون صاحبه، بل يساوي بينهما في كل حال من قول وفعال، ويستوي فيه المنصوب وغير المنصوب؛ لأن من تراضيا به فهو حاكمهما، وعليه أن يعدل فلا فرق في ذلك بين المنصوب وغيره، ويجوز للإمام أن يأذن في ذلك، والدليل عليه أن رسول اللهً أذن لمعاذ في قبول الهدية، وقد قال: ((هدايا الأمراء غلول)) والغلول هو الحرام، فلو كانت الضيفة حراماً وأذن فيها الإمام لجازت، وأهدي لمعاذ ثلاثين رأساً من الرقيق في حال إمارته في اليمن، فلما رجع المدينة بعد وفاة رسول اللهً حاول أبو بكر انتزاعهم إلى بيت المال فكره وقال: طعمة أطعمنيها رسول اللهً؛ فأتى وهم يصلون فقال: لمن تصلون؟ فقالوا: لله. قال: قد وهبتكم لمن صليتم له. فأعتقهم وكان رحمه الله سهلاً، فهذا أصل كما ترى، وقد قال [عليٌّ] عليه السلام في رسالته إلى عمال الأطراف: ضموا أطرافكم، وافعلوا(1/177)