وهم يستخرجون منه، وإنما على قدر ما يرزقهم الله تعالى من كثرة وقلة، وتفاضل في الجودة؛ فكما أن الذي يخرجه أحدهم هو غير ما يخرجه الآخر، وإنما هو جنسه فلحق به، فليس للآخر أن يقول: إن هذا غير ذلك فلا أقبله؛ فإنه يقال له: فإن كان غيره فإنه من جنسه. فتفهم ذلك تجده كما قلنا، ولولا صحة ما قلنا لما صنف أحد من الأئمة المتأخرين علماً، ولكان العلم كتاباً واحداً وهو الآثار التي جاء بها النبيً ولا يتعداها أحد إلى غيرها، ولكان من جاء بعد رسول اللهً من علي فمن بعده من ولده عليهم السلام يقال لهم: [لا] نقبل منكم إلا ما كان في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه ً؛ فهذا كما ترى قول ساقط لا يلتفت إليه، ولولا الضرورة والبلوى بهذه الفرقة الملعونة، والأمة المفتونة، لما اشتغلنا بشيء من هذا، ولكنا نذكر ما يذكر الله تعالى، لئلا نلقى الله تعالى ولأحد من خلقه لائمة، ومن الله نستمد التوفيق والهداية.(1/168)
[ مصروفات الوالي ]
وسألت: إذا كان السلطان يقبض ما يقبض من الرعية على جاري عادته، ويصرفه في ضيفه وخدمه وسائر مصالحه وعلى حرب من حاربه، وسواء كان الحرب حقاً أو باطلاً، هل يجوز ذلك له، أو يجوز للمسلمين التصرف من تحت يده، ويجوز للإمام أن يقره عليه أم لا يجوز؟
الكلام في ذلك: إن للإمام أن يعطي السلطان أو غيره، فإن استقاموا على طاعة الله تعالى فقد عملوا بالواجب وسلموا من الجرح، وإن عصوا الله تعالى طلبهم بحكم معصيته فكان ما أعطاهم الإمام حلالاً يُسألون عنه يوم القيامة كما يسألون عن نعمة الحلال التي أنعم الله بها عليهم، وللسلطان أن يصرف ما قبضه في مصالحه؛ وإلا فما فائدة صرف الإمام إليه، فأما حروبه فما كان طاعة لله تعالى وجائز فهو غير آثم، وما كان محظوراً فحكمه لا يتغير وهو عليه محظور، ولا يجوز له الإنفاق من صميم ماله وخالص حلاله على الحروب وسائر الأمور المحظورة، فما المخصص لما يعطيه الإمام بالحكم إلا واحد، وللمسلمين التصرف فيما أعطاه الإمام ما لم يحصر الإمام ذلك.
وأما إقرار الإمام له: فكما جاز أن يعطي لمصلحة جاز أن يقر لمصلحة، فلا وجه لاعتراض المعترضين على أولاد النبيين.(1/169)
[ الضرائب والقبالات ]
وسألت: ما الحجة على جواز أخذ الضرائب، والقبالات في الأسواق والجلائب، وأهل التجارات والصناعات، وإكراه أهل الزرايع وسائر الأموال على أخذ أكثر من الزكاة عموماً من سنة النبيً أو سير الأئمة عليهم السلام قلت: ويبالغ الإمام في ذلك فالمعترض يقول: الآيات الموجودة محمولة على الزكاة، والزائد مندوب إليه من غير إكراه، وقال المعترض: إن النبيً لم يكره أحداً من الصحابة على أزيد من الزكاة مع شدة الحاجة إلى ذلك، وكثرة أموال بعضهم، وقد روى عنه صلى الله عليه وآله السلف؟.
الكلام في ذلك: إن جواب هذه المسألة على تنوعها وتفرعها ينبني على أنه هل يجوز للإمام أن يأخذ من الأموال ما يسد به الثغور، ويصلح به الأمور من أحوال الجمهور أم لا؟ فإن كان ذلك يجوز لم يبق للسؤال وجه، وإن كان لا يجوز فحكمه باق والسؤال قائم الحكم، وقوله: إن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإمام من بعده التصرف في أموال المسلمين ونفوسهم بما يؤديه إليه النظر في مصالحهم وعليه الاجتهاد وعلى الله التوفيق فما أداه اجتهاده إليه جاز له أخذه لمصلحة الدين، وما لم ينظر لأخذه صلاح فهو لا يأخذه لارتفاعه عن درجة المتهمين، ومتهمه في ذلك لا يكتب في سجل الصالحين عند جميع المسلمين.(1/170)
فنقول وبالله التوفيق: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب الكتاب يوم الخندق لعيينة بن حصن ومن تابعه من غطفان بثلث تمر المدينة من غير مشورة الأوس والخزرج رحمة الله عليهم أجمعين فوصل إليه السعدان: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ في آخرين فقالوا: يا رسول الله أمر من الله أمرك به فلا يجوز لنا تركه، أم نظر نظرته لنا؟ فقال: ((بل نظر لكم. فقالوا: يا رسول الله والله لقد كنا على عبادة الأوثان فما طمعوا بتمرة من تمرها إلا أن يكون قرى أو شراء، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام وبك يا رسول الله. فأعطاهم الكتاب مزقوه)) وهذا الخبر لم تختلف الأمة في صحته وهو دليل واضح على أن لولي الأمر أن يأخذ الأموال بغير مراضاة من أربابها لمصالح الأمة، ووجه الاستدلال بالخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم بذلك وأراد إمضاءه إلى أن عرَّفه القوم قوتهم ومنعتهم، وكان امتناعه لأجل ذلك لا لأنه لا يجوز؛ لأنهً لا يهم ولا يريد لعصمته إلا بالجائز دون المحظور، فإذا جاز ذلك لرسول اللهً فهو جائز للإمام من بعدئذٍ، لا أحد فصل حكم الإمام في التصرف عن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا فيما خصه الله من النبوة، وكذلك قال أبو بكر على منبر رسول الله ً: لو منعوني عناقاً وفي رواية أخرى عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه. فلم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً، فثبت أن ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو للإمام من بعده، فلما اعتقد أبو بكر في نفسه الإمامة قال ما قال ولم ينكر ذلك عليه أحد، فهذا فعل الرسول كما ترى، وهو القدوة؛ وقد تقرر أن للإمام أن يأخذ من الأموال ما يدفع به العدو إما مسالمة أو محاربة، فهذا الشرع ودلالة العقل تقضي بذلك كما قدمنا أن لولي اليتيم إذا خشي التلف جاز له أن يدفع ذلك الضرر بقسط من ماله بثلث أو ربع، ولا يعلم في ذلك خلاف بين العقلاء والمسلمين كافة، وهذه الأموال(1/171)
المأخوذة من المسلمين دون ما أراد أخذه خاتم النبيينً ولصلاح المسلمين.
وأما حملهم الآيات على الزكاة فقول لا يقول به أحد من المسلمين، آيات الصدقة على حيالها، وآيات الإنفاق على حيالها؛ وآيات الصدقة هي المتضمنة لأخذ الزكاة تصريحاً [و] كقوله تعالى: ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا?[التوبة:103]، وهذا محمول على الزكاة، فأما قوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ….الآية?[التوبة:111]، فلا يحمله أحد من أهل العلم على الزكاة، وإنما يحمل على الجهاد بالمال والنفس وهو ظاهر، ولا يجوز العدول عنه بوجهٍ من الوجوه، وقد قال النبي ً: ((اجعل مالك دون دمك فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك)) فأوجب إتلاف المال والنفس بحياة الدين، والله عز من قائل يقول: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?[الصف:10، 11]، ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى دل العباد وهو الهادي إلى الهدى وإلى الرشاد، وجعل الإيمان بالله تعالى وبرسوله مقرونة بالجهاد في سبيله بالمال والنفس، وظاهر الآية يقضي بذلك، والعذاب الأليم لا يكون في مقابله شيء سوى الواجبات؛ لأن الترك لغير الواجب لا يستحق عليه العقاب، فدل على [أن] إنفاق المال في سبيل الله سبحانه واجب، فإذا كان واجباً لمن كان يعرف الاستدلال ومعاني الأقوال.(1/172)