[ الجمع بين النقيضين ]
ثم قال: ولا هو محب لمن ظهر منه اعتقاد التطريف، وهو محب للمشرقي، ومحسن الظن فيه لما ظهر من صحة اعتقاده ولم يعلم منه خلاف ما أظهر، فكان قوله هذا من أطرف فصول مسألته هذه الملفقة، كيف يبغض أهل التطريف ويحب الشقي المشرقي وهو رأسهم وسنانهم، وسيفهم ولسانهم، وإن كان [سيفا ذو شباً ولساناً با قليا، ولكن هذا السوار لمثل هذا المعصم.
وأما قوله: لما ظهر من صحة اعتقاده؛ فأي صحة اعتقاد لمن ظاهر أهل التطريف، ومال إلى التحريف، وإنكار المعلوم من مذهبه ومذهبهم ضرورة يحمل الكافة على العلم بكذبه وانقطاع سببه، ولأن المعلوم من حال الشقي أنه بنى أمره على الكذب من أول وهلة، فمن ذلك ما اشتهر اشتهار الشمس، واستغنى بجهره عن الهمس، وذلك أنه ادعى الإمامة وهو غير مستحق لها، وذكر أنه وجد كنوز دقيانوس -وهي ودائع آل قبير- قبرها وبعثها ودفنها [ونبثها]، وبها فطوقته العار طوق الحمامة، لما استوعب من الوديعة وادعى [من] الإمامة، قال: ولم يعلم منه خلاف ما أظهر؛ وقد قدمنا أن المعلوم منه ضرورة خلاف ما أظهر، ولا شك في ولاية المطرفية وكونه [لهم] إماماً بزعمه وزعمهم ومذهبهم معلوم مشهور توالت به الأعصار والدهور.(1/158)
وأما قوله: وحارب معه للدفع عن نفسه وماله. فهذا سؤال نازح عن العلم، شاسع عن الفهم؛ وهل يجوز لأحد من المسلمين محاربة الإمام فيفتقر إلى الدفع عن نفسه وماله أوليس الهجرة واجبة عليه إلى دار إمامه، وإن لم يكن إمام وجبت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام في جميع ليالي العصور والأيام، فلا يفتقر ذلك إلى وجود الإمام، وفي الحديث عن النبي ً: ((وفي المؤمن والكافر لا يتراءى ناراهما)) والمراد بذلك المساكنة وإلا فإنا جنة المسلمين نار المشركين للحرب واجبة عليهم، ونارهم متقابلة، وذلك من الفضائل ومتاجر الثواب، وهذا لو كان عذراً لجاز حرب النبي والوصي والإمام الهادي المهدي صلوات الله عليهم أجمعين، لأنهم الذين طلبوا الناس نفوسهم، وأموالهم، وأولادهم، فكان عذر أعدائهم يكون مقبولاً، وعلى الصحة محمولاً، وهذا ما لا يقول به مسلم، وهو يكون والحال هذه كافر لموالاته ومساكنته للمشركين، وسواء كان مصوباً أو مخطئاً للكافرين فإنه كافر بولايتهم، لمظاهرته لهم على غوايتهم، قال الله تعالى: ?بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا?[النساء:138، 139]، ومعلوم أن النفاق أعظم أنواع الكفر، وجعل صفتهم الموجبة لنفاقهم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتفهم ذلك موفقاً إن شاء الله تعالى.(1/159)
[ كذب المشرقي ]
وسألت: ما الدليل على صحة كفر المشرقي مع الذي أظهر في المحافل من صحة الاعتقاد إذا لم يعلم منه خلاف ما أظهر؟
الكلام في هذه المسألة قد تقدم الكلام في الأولى على معناه، وذلك أنه قال: ظهر منه من صحة الاعتقاد ما لم يعلم خلافه.
الجواب: إن المسألة منتقضة من أولها؛ لأن المشرقي لم يظهر منه صحة الاعتقاد، بل ظهر منه كذب صريح يعلمه كل ذي عقل صحيح، والمعلوم منه خلافه؛ لأن كلامه في المحافل يحكي مذهب الحق ويحلف عليه أنه اعتقاده واعتقاد شيعته المطرفية، والمعلوم ضرورة لجميع أهل الحق من مذهبهم خلاف ما أظهره، فكيف يصدق إذا جاء بخلاف المعلوم فما هو إلا كما قال الله سبحانه: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، وكما قال تعالى: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?[المنافقون:1]، فقضى بكذبهم وإن قالوا الحق؛ لأن المعلوم من مذهبهم خلاف ما أظهروا فما الحال في هذا إلا واحدة . فتأمل هذه المسألة تجد الأمر كما قلنا.(1/160)
[ حكم من بايع المشرقي ]
وسألت: ما حكم من بايع المشرقي وحارب معه لما ظهر منه وصوبه وأحبه، أو حارب ولم يصوب ولا أحب، لكن للوجوه المتقدمة في أصحاب معاوية؟
الكلام في ذلك: إن حكم من بايع المشرقي كافر شقي، وتصويبه كفر، وكذلك حبه والحرب زايد على ذلك؛ لأنه يتضمن النصرة والولاية، فجمع وجوه القبح في نصرته؛ لأنا قد بينا كفر المشرقي وأهل مقالته ومباهتتهم ومباهتته في ضلالته، وحكم تابعه حكمه، فلا يصح التبري عنه في دار الآخرة، وقد حكاه الله تعالى ولم يسقط حكمه، فقال سبحانه: ?إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ?[البقرة:166]، فلم يبرئهم سبحانه من ذلك، ولا نفى عنهم الكفر بالانتفاء عنه، وكذلك حكم من حارب معه ولم يصوبه ولا أحبه، فإن حكمه يجري عليه ظاهراً. دليل ذلك ما فعله رسول اللهً مع عمه العباس، وقد قال للنبيً: إنا إنما خرجنا كارهين مع قريش، وذلك المعلوم منهم، وبغاضتهم لقريش معلوم لعداوتهم للنبيً وإجماعهم عليه بالعداوة في حقه،فقال النبيً: ((أما ظاهر أمرك فكان علينا)) فلم يعذرهم بالفداء، ولا خلصهم بالمن، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِن الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ?[الأنفال:70] فلم يجعل للكراهة لهم والبغاضة حكماً في المظاهرة لهم والكون من جملتهم، وقد تقدم الكلام في أصحاب معاوية.(1/161)
[ الدليل على كفر أهل المصانع ]
وسألت: ما الحجة على كفر أهل المصانع، ومنهم من لا يعرف اعتقاد المطرفية، ولا يحب من قال به، وما الطريق إلى العلم إنهم قد تمالوا على حبهم؟.
الكلام في ذلك: إن الدليل على كفر أهل المصانع من وجوه :
من ذلك تماليهم على منع الصدقة، وإظهارهم في المجامع والمحافل بشهادة الثقات أنا في بلاد لا تحتمل الزكاة، فكان رداً لما علم من دين النبيً ضرورة وهو كفر بالاتفاق.
الوجه الثاني: متابعتهم للشقي المشرقي وإخوانه المطرفية، والله عز من قائل يقول حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: ?فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِي?[إبراهيم:36]، فجعل حكم تابعه حكمه، والظاهر من أهل المصانع المتابعة للمشرقي الشقي، والمطرفية المرتدة الغوية، فلا وجه لمعرفة اعتقاد المطرفية ومحبتهم؛ لأن من ظاهر الكافر وجعله إماماً فهو كافر، وسواء كان محباً له أو مبغضاً متديناً بدينه أو مقلداً، ولا يحتاج إلى العلم بأن الكل من المصانع قد تمالوا على حب المشرقي والمطرفية يكفي في ذلك حب الأكثر وظهور الحال في المتابعة؛ وهذا معلوم ضرورة أن الكل تلقاه بالقبول، وأظهر البشر به والبشاشة، وتحملوا المؤن في حقه، وأنفقوا طائفة من أموالهم في تقوية ضلاله وكفره، فما بقيت الحاجة إلى الإحاطة بعلم أحوالهم مغطة وجه، والحكم للظاهر والأعم للأكثر ونحن نعلم بتواطؤ الآثار أنه قد كان بقى في دار الشرك من يحب النبيً محبة شديدة كبني هاشم المتخلفين عن الهجرة ومن قال بقولهم، وكخزاعة فإنهم كانوا عيبة سر رسول اللهً مسلمهم وكافرهم، ومعلوم أن رسول اللهً لم يفرق بين أحكامهم وأحكام المشركين، بل جعل الحكم واحداً.(1/162)