[ من روائع الإرشادات والحكم ]
رحم الله امرءاً تبصَّر وتفكَّر، وعقل الأمر وتدبَّر، وسلَّم لمن أمر بالتسليم له، وسلك إلى الرشد سبيله، أصل الاعتراض المرض، كما أن أصل الشرق الحرض، هل كان في الوصي المعصوم لقائل مقالة، فقطع العباد المجتهدون على كفره لا محالة، بعد شهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالعصمة، وزوال الوصمة، ما كان أحوج أهل الدين الصحيح، إلى العمل بالجد والاجتهاد فيما وقع به من الباري سبحانه للنص الصريح، في إعزاز الدين، ومنابذة المعتدين، أصلح شسع النعل، وتأبد عن الإسلام بالحجارة والنبل، وكن ضجيعاً للحسام، واصبر صبر الكرام، فإنما هي شهقة وقد أفضيت إلى دار المقام، فإما إلى سعادة دائمة، وإما إلى شقوة لازمة، كم بين الودع والورع، والبازل والفزع، أقبح الجهل ما وقع من مستنصر، وأعظم الزلة ما كانت من غير مقصر، هل بعد اليقين شك، وهل مع المعرفة حك، وإنما ينقد المجهول، ويختلف فيما خالف الدليل، أعيت الحيلة في تبصير القاطع على عمله، والمدعي لتوحيد فهمه، هل علمت خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافاً مستمراً إلا الأحبار، وهل نازعه إلا من يعدُّ نفسه في الأخيار، أفهل كان في برهان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصور، وفي جريه في الرشاد فتور، اتهم نفسك لا إمامك، وتقدم والصلاة أمامك، لا تضرب وجه الجواد السابق لتصده عن الغاية، فتكون للناس آية، ما أحوج السلاح إلى الحملة، والعلم إلى العملة، يا طالب الدين لا بد من الآلة، فإنها لا تقوم مقام الدرع الغلالة، انصب وارغب، ولا تُتعب ولا تتعب، فالدين منهج قويم، وصراط مستقيم، اليمين والشمال مضلة مزلة، والوسط يوصلك بحبوحة الملة، وينميك في الأصلة، لا بد للمسافر من زاد ومزاد، ولا بد للمقاتل من سلاح وعتاد، انظر لنفسك ولا تعتد بالوكل، ولا تعللها بليت ولعل، فإن هول المطلع شديد، والشاهد عليك عنيد، إن من التكبير ما يكتب على صاحبه كبيرة، فنسأل الله(1/143)
تعالى حسن البصيرة، سبح ما استطعت بالكلمة أو الحركة، ففي القليل مع الاستقامة البركة.
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يؤتى يوم القيامة بطوامير كأمثال الجبال فترجح بها صحيفة توازي أصبعين فلا تطلب أثرا بعد عين)) هل بعد الهداة لمهتد هداية، وهل بعد الذرية الزكية لمرتادٍ غاية؟ من شك فيما أحلُّوه، كمن شك فيما أحلَّه أبوهم؛ لأنهم قفوه، كما أن خلفهم يقفوهم، إن لم يشتد على أعداء الله غضبهم، فمن يشتد غضبه، وإن لم يستطع على الظالم نهيهم فمن يسمو لهبه، يكفيك من النهر الطالوتي غرفة وللاستقصاء من الحرفة، ترك الدين ملا والشكا والمراد، وأدرك الذين بلُّوا حلوقهم بالغرفة الواحدة المراد، من نصر الله لهم في الدنيا ورضاه يوم المعاد، قليل من العلم يحتاج إلى كثير من العمل، وإياك أن ينتظمك المثل، (سعيت وحج الجمل)، أين من شغله علاج دبر جواده، ممن همه التعلل في إيراده.
لو أن سلمى شهدت مطلي تمنح أو تدلج أو تعلي
إذا لراحت غير ذات دل
الإسلام عند المستحفظين به غض، وأديمه لديهم أبيض نض، وعند سواهم أسود اللون شاحب الجبين، لا يعرف مع التوسم والتفرس إلا بعد حين، وذلك لأنهم طلبوه في غير مطلبته، فلم يتحصنوا بجنته، للعلم أرباب، وللدين نصاب، آل محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم أربابه، وفيهم نصابه، إن أقدموا فاقدموا مصممين، وإن أحجموا فكونوا من المحجمين، إن التقدم على الإمام تأخر عن شريف المقام، التأخر عنه عز وشرف، والتقدم عليه شين وسرف، من ذا يدلك إن تجاوزت الدليل، ومن يرشدك إلى نهج السبيل، إن عصيت المرشد العذول وقعت في الحاطمة، إن اتهمت أبناء فاطمة، سلام الله عليها وعليهم أجمعين، أين المرشد من المغوي، والمعوج من المستوي.(1/144)
[ عود إلى السبا ]
لا والذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، والحجة ما تقدم من البرهان دون اليمين، ما كان ما أمرنا به من السبي إلا لتقوية قواعد الدين، وإعزاز الإسلام والمسلمين، وإذا كان للباطل صولة، فلا بد للحق من دولة، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتل ما أمسى بيثرب يهودي له خطر إلا وهو يتوقع الهلاك، فجاوز الدين السماك، لا يكون للدين هيبة على الكفر ما لم يتقدم القتل على الأسر، وهل اتضع الإسلام بالسبا على عفة أربابه، ألم تشمخ بذلك عوالي قبابه، قال شاعرهم:
وكان يرى فينا من ابن سبية .... إذا لقي الأبطال نضربهم هبرا
فما زادها فينا السباء نقيصة .... ولا حطبت يوما ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بحر نسائنا .... فجاءت بهم بيضاً جحاجحة غرا
إن شككت في أمر السبية فابحث عن قصة الحنفية، يا ورع يا أورع، أين أنت عن قصة الوصي الأنزع، بالغت السنة في نتف الأبطين، وغفلت عن قصة أبي السبطين، ما كان أغنى الخيبة عن المشورة، على حواء بأكل الشجرة، حتى نزلت بها عقوبة الفجرة، جعل الله سبحانه مسيرها على البطن والرأس، وعادى الباري بينها وبين الناس، وقد كانت في خلق الناقة، في الحسن والرشاقة، قال بعض الشعراء من أهل الكتب الشريفة ذكر فيها الحية:
وكانت الحية الرقشاء إذ خلقت .... كما ترى ناقة في الخلق أو جملا
فلاطها الله إذ أطغت خليفته .... طول الليالي ولم يجعل لها أجلا
تمشي على بطنها في الأرض ما عمرت .... والترب تأكله حزناً وإن سهلا
هلك من كذب القطا، وركب في أمره متن الخطا، ولو ترك القطا لنام، فعلق رأسه اللجام:
فقلت لكأس ألجميها فإنما حللت الكثيب من زرود ليفرغا(1/145)
لا يصلح آخر هذا الدين إلا بما صلح به أوله، ينبيك بأيام الصيف حرملة، ألم تعلم قصة الأشعث الكندي في قصة رباب، وذياب، وكلاب، وغراب، يبحث عن نساء من كندة، كان لهن فيهم شأن من الشأن، اختطفهن يوم النحير، الكلاب والذئاب، والذبان والغربان، على منعهم ناقة تسمى (شذرة) نعوذ بالله من ورع يؤدي إلى الحسرة، ما كان أحوجنا من مورد السؤال إلى المعرفة، والنصرة نفس السجية، التغرب بعد الهجرة، قال الصادق الأمين عليه وعلى الطيبين من آله صلوات رب العالمين: ((من جهَّز غازياً أو خلفه في أهله كان له مثل أجره)) فما حاله إذا لسبه بملامه، وطعنه بكلامه، وثبط عنه بتشكيكه وإيهامه، وعض كالمتأسف على إبهامه.
يا خاطر الماء لا معروف عندكم .... لكن أذاكم إلينا رائح غاد
بتنا عرونا وبات البق يلبسنا .... يشوي الفراخ كأن لا حي في الوادي
إني لمثلكم في سوء فعلكم .... إن جئتكم أبداً إلا معي زادي
هذا الشاعر المسكين نادى من لسع البق والطوى، فمن لنا بمثل حاله، والبلوى بمثل خلاله، ولما دعا نوح عليه السلام للحمامة بالزينة لنصحها له في أيام السفينة، فقال فيها الشاعر:
وقد هاجني صوت قمرية .... هتوف العشا طروب الضحى
مطوقة كسيت حلية .... بدعوة نوح لها إذ دعا
من الورق نواحة ناكرت .... عشية أساء بذات الأضا
تغنت عليه بشجو لها .... تهيج للصب ما قد مضى
فلم أر باكية قبلها .... تبكي ودمعتها لا ترى(1/146)
فانظر إلى هذا الشاعر مع إصابته في اللفظ، وتبريزه في الفصاحة، كيف خلط في المعنى تخليطاً لا يغبى على أحكام أهل المعرفة بإحكام القول، تبناها عنده هتوف؛ وهو دلالة الواحد إذ هي طروب وهو دلالة الفرح، وبينا هي نائحة إذ هي مغنية؛ والنوح والغناء لا يجتمعان، فتفكر في هذه المعان، طلب المسترشد الإرشاد، وضرب علينا الأسداد، وقد كفى من تقدمنا وتقدمه من آبائنا عليهم السلام بالإشارة، وفصلوا معنى العبارة المحققة والمستعارة، فخرجوا منها علوماً جمة، وهدوا بها ضلال الأمة، واستعانوا بها على كل مهمة، وكشفوا بها كل غمة، ونحن عملنا في مسألة واحدة، رسالة حاشدة، وسميناها (الرسالة الهادية بالأدلة البادية)، وإنما قلنا ذلك لظهور أدلتها، وقوة علتها، وكنا قد قدمنا على الحادية، وهي عند طالب الإرشاد لأبيه، ليست أدلتها مسروقة، ولا مناهلها مكدرة مطروقة، يشهد لمنشئها بالمعرفة الجامعة، والرواية الواسعة، مبسوطة بالإسناد، مؤيدا بالاستشهاد، فلما تكرر السؤال من الأصحاب، وحق كل محب أن يجاب، أنشأنا هذه الرسالة وسميناها (بالدرة اليتيمة في تبيين أحكام السبا والغنيمة) على أشغال تبلبل البال الساكن، وتلحق المقيم بالظاعن، ثم لمن نتمكن فيها من البسط، وإن كان فيها والحمد الله ما يغني عن الرحل والحط، اعتراض البرق يدل على الحياء، وإن تعذرت مشاهدة الرباب، وقد قيل: إن السبع المثاني هي أم الكتاب، فليتدبرها الإخوان بعين الإنصاف، فلعلها -إن شاء الله تعالى- تنزل منزلة الألطاف، وتعرف المسترشدين ما عرف أهل الأعراف، فيكون ما فيها كاف شاف، ومن الله نستمد التوفيق والعون بالله، وصلى الله على محمد وآله وسلامه.
تمت الرسالة الموسومة (بالدرة اليتيمة في تبيين أحكام السبا والغنيمة) والحمد لله على كل حال وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله خير آل.(1/147)