من ذلك أن أبا جعفر المسمى بالمنصور لما قتل محمداً وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن عليهم السلام أمر شيبة بن عقال يتقدم إلى المواسم لسب أهل البيت عليهم السلام فارتقى المنبر وقال: إن علي بن أبي طالب شق عصا المسلمين، وخالف أمر رب العالمين، وطلب أمراً ليس له، فحرم أمنيته، ومات بغصته، وهؤلاء أبناؤه يقتلون، وبالدماء يخضبون. قال فقام رجل من أوساط الناس فقال: نحمد الله بما هو أهله، ونسأله الصلاة على محمد وأهله [أما ما قلت من خير فنحن أهله]، [و]أما ما قلت من شر، فأنت به أولى، وصاحبك أحرى، يا من ركب غير راحلته، وأكل غير زاده، ارجع مأزوراً غير مأجور، ثم التفت إلى الناس فقال: ألا أنبيكم بأبين من ذلك خسراناً، وأخف ميزاناً، من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا. ثم قعد. قال الراوي: فسألنا عنه فقيل : هو جعفر بن محمد عليهما السلام.(1/138)
فقد صح لنا كفر أكثر هذه الأمة لو لم يكن لهم جرم إلا شتم العترة، وهذه أمية أقامت السب لعلي عليه السلام وأهل بيته -سلام الله عليهم- على فروق المنابر ثمانين سنة، ما ترك إلا في أيام عمر بن عبد العزيز وأيام يزيد المسمى بالناقص وهي تسعة شهور، وأيام معاوية بن يزيد وهي أربعون يوماً، والكل من أهل الدنيا إلا القليل شاتم أو مصوب للشاتم، فقد عمهم حكم الشاتم وهو الكفر؛ لأنا روينا عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((من سبك فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله تعالى أدخله النار)) ولا خلاف بين المسلمين أن سب الله تعالى، وسب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كفر، وإن شتم البعض ورضي البعض ولم ينكر فالكل يكون شاتماً حكماً، قال الله تعالى في ثمود: ?فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ?[الأعراف:77]، فعمهم بالفعل، والعاقر قدار بن سالف ومصدع بن سليم في نفر يسير معينين لم يتجاوز أحد من أهل العلم فيهم التسعة، فعم الله سبحانه باسم الفعل وحكمه أمة من الأمم؛ ووالله لإمام من أئمة الهدى أكرم على الله تعالى من تلك البهمة، فقد قتلوا ورضيت الأمة -إلا القليل- بقتلهم، فهذا نوع لو لم يكن إلا هو لكفرت به الأمة.(1/139)
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في أهل بيته: ((أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم)) والمعلوم أن من حارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافر لا محالة، ومثلهمً بباب السلم -والسلم هو الإسلام- فمن لم يتمسك بهم كفر حكماً وإلا بطل التمسك وهو نبوي لا يجوز ذلك فيه، ومثلهم بسفينة نوح وما تخلف عنها إلا الكافرون بالإجماع والنص، وكذلك المتأخر عنهم من هذه الأمة يكون كافراً وإلا بطل التمثيل ولا يجوز بطلانه؛ لأنه في الحكم كأنه من الله تعالى، قال تعالى: ?وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى?[النجم:3، 4]، وإنما يستعظم -رحمك الله تعالى- التكفير من يجهل أحكام الحرمات، ويستصغر جرايم المجرمين والمجرمات؛ وإلا فأي كفر أعظم من قتل ذرية الأنبياء، وسلالة الأوصياء سلام الله عليهم الذين يأمرون الناس بالقسط، ويقضون بالحق وبه يعدلون، وكم قد ظهر من الآيات الدالة على الكفر إذا كان في الحديث أن لقاتل محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه السلام ثلث عذاب أهل جهنم ما ترى يكون حكمه، وإذا كان قاتل يحيى بن زيد عليه السلام رأى في المنام كأنه قتل نبياً فخرج إلى أصحابه في المسجد وأخبرهم بمنامه، وأمرهم بغل يده إلى عنقه، فلما قام يحيى بن زيد عليه السلام قالوا له: لا غنى عن رميك، وقد خرج هذا الخارجي فاخرج معنا لحربه، فإذا فرغنا من حربه رددنا يدك إلى حالها الأولى. فخرج معهم فكان هو الرامي ليحيى بن زيد عليه السلام فصرعه، وأجهز عليه سورة بن محمد الكندي فلما رجعوا من حربهم ردوا يده على حالها على غير شيء وقد تبت يداه، وخسر آخرته ودنياه؛ لأن المعلوم لأهل العقول أن من آذى رسول اللهً بكلمة متعمداً كفر بلا خلاف، ومن المعلوم أن قتل ذريته، أعظم من أذيته هذا مع السب لهم والتبري منهم والمباينة والمحاربة.(1/140)
وروى الإمام الأجل المتوكل على الله -عز وجل- أحمد بن سليمان بن الهادي إلى الحق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً رفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: ((من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهودياً، قال جابر: قلت: يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) ومن المعلوم أنه لا يحشر يهودياً إلا وهو كافر بلا مرية في ذلك.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من حاربني في المرة الأولى وحارب ذريتي في المرة الأخرى فهو من شيعة الدجال)) والمعلوم لأهل العلم أن شيعة الدجال اليهود لعنهم الله لا يكون من شيعة الدجال إلا حكماً؛ لأن المعلوم لهم مخالفتهم نسباً، ومعلوم أنهم كفار، وما من ينزل عيسى بن مريم عليه السلام مدداً للصالحين سببه تخفيف الوطأة في الكفر. فنسأل الله الثبات في الأمر، فقد أدب الله تعالى أبانا رسول الله صلى الله عليه وعلى الطاهرين من آله بآداب شريفة يلزمنا القيام بها، قال تعالى: ?لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?[الشعراء:3]، وقال تعالى: ?وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ?[آل عمران:176]، وقال تعالى: ?فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ?[المؤمنون:41]، وقال تعالى: ?فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ?[المائدة:68] كل هذا تحريض من رب العالمين لأوليائه ليشتد منهم الغضب على أعدائه، فإذا أسقطنا أعظم أحكامهم، ورفع عنهم أقبح أسمائهم بغير برهان ما يكون عذرنا عند الواحد المنان، وقد بينا في هذه الرسالة أن الخطر في الترك كالخطر في الفعل، وليس هذا من قولهم: لئن أخطئ في العفو أحب إليّ [من] إن أخطئ في العقوبة؛ لأن هذا كلام في الإيمان والأحكام، وهو من أصول الدين التي لا يسع جهلها، ولا رخصة في إهمالها، وفي الحديث عن النبي ً: ((مَنْ لاَ يَرحَمْ لا يُرْحَم))(1/141)
والله عز من قائل يقول: ?وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه?[النور:2]، وقال لنبيه ً: ?وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ?[القلم:4]، وقال تعالى: ?وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ?[البقرة:159]، وقال تعالى: ?وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ?[التحريم:9]، فكلما أورد أيدك الله تعالى بتوفيقه من لين، وتهوين، ورقة، ورحمة، ولطف، وشفقة، فإنما يراد بها المؤمنون الصالحون الذين يجب تكريمهم ويلزم تعظيمهم.
وأما أعداء دين الله ومخالفوا عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والكاذبون على الله تعالى، والرافضون لأئمة الهدى، والسالكون مسالك الغي والردى، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتمادوا في غيهم وفجورهم، فتكفيرهم دين، وسبهم سنة خاتم المرسلينً والتخفيف عليهم وزر، والتغليظ عبادة وأجر.
انظر رحمك الله كم المحق من المحقين، والمؤمن من المؤمنين، وهذا كلام غير متناقض للمتأملين، وما يعقلها إلا العالمون، فنسأل الله تعالى إسبال الستر، وتيسير الأمر.
شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر
كم بين من شغله يتفقد حرمه وإعراضه، وعنابه وإباضه، وبين من شغله بطغيه واعتراضه، وتجارزه وإبغاضه:
يطرق إطراق الكرى لكي يرى ما لا يرى
حدد مداه ليقطع ما أمره الله تعالى بوصله، وليقضي على العلم بجهله، ولينفي الفضل عن أهله، ?وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ?[النساء:83]، ويقول تعالى: ?أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59]، فكيف تثبت طاعة مع الخلاف والنزاع، والاعتراض على ولي الأمر في الأفعال والأوضاع، إنما هو فجر أو بجر.(1/142)