الأئمة عليهم السلام في المسائل، ولا يرون بينهم اختلافاً في أن دار المجبرة دار حرب، وأحوال الأئمة عليهم السلام لنا معلومة من لدن أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله الطيبين فلم نعلم أحداً منهم تمكن تمكناً يتمكن معه من إجراء أحكام رب العالمين، على أعدائه الكافرين، بل يحاول توطيد الأمر لتنفيذ الأحكام، فتحول العوائق بينه وبين المرام فالحمد لله رب العالمين.
أتم ظهور كان لأهل هذا البيت ظهور محمد بن إبراهيم عليه السلام في الكوفة، فإن في دعوته استظهر أهل هذا البيت المطهرين عليهم سلام رب العالمين على الكوفة والبصرة وواسط والأهواز وكرمان وفارس والحجاز واليمن والمدائن، وصارت بغداد في حكم الحصر وطمع الأولياء بالظهور والنصر، وقتل من الجنود العباسية مائتي ألف قتيل فمات عليه السلام لشهرين من قيامه، وقيل: لأربعين يوماً، وعلى الجملة لم تطل أيامه عليه السلام.
وفيه عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قال: يا أهل الكوفة، يخطب على منابركم هذه وأعوادكم هذه سنة تسع وتسعين ومائة لرجل منا أهل البيت يباهي الله به كرام الملائكة؛ فكان عليه السلام فلم يقع تمكن يبلغ به المراد وتخمد فيه نار أهل الفساد، وكانوا إلى تألف العامة أحوج، وأكثر العامة في جميع الأعصار على رأي بني أمية في الجبر والتشبيه؛ لأن دينهم قد كان طبق آفاق الأرض من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ومن بلاد السند إلى بلاد الروم؛ فانغمس القوم في دينهم بالجبر والتشبيه وبغضة أهل هذا البيت المطهر، فالأكثر على ذلك إلى الآن فالله المستعان.(1/112)
والنظر في إمضاء الأمور وتركها إلى الإمام فإن تقوى نظره على إمضاء الأحكام أمضاها، وإن أداه نظره إلى ترك ذلك تركه، حتى إذا كان مقاوما للعدو كف عن إقامة الحدود مخافة فتق لا يمكن إصلاحه، فالنظر إليه في فعل ما يجوز فعله على وجه، وترك ما يجوز تركه على وجه، وللدين أصول يرجع إليها، وإذا نظر بعض الناس من الأمة نظراً -وإن كان الناظر صالحا- لم يلزم الإمام فعله ولا نظره، وإذا نظر الإمام نظرا له وجه في الدين ومذهب في النظر كان على الكل قبوله والرضى به والاعتماد عليه، قال الله تعالى : ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا?[الأحزاب:36]، وهذا فيما تكره القلوب، وتنفر عنه النفوس؛ لأن الآية الشريفة قضت أن اختيار العباد كان واقعاً على غير قضاء الله ورسولهً ولكن اختياره خير من اختيار عباده، ولولا علم الله سبحانه أن في شدة الوطأة على أعدائه بالقتل والسبي والصلب والسلب صلاحا في الدين وقوة للمسلمين، لما قرت بذلك أحكامه، وجرت أوامره، وليس ما يخاف من تعد الفراعنة يمنع من إمضاء أحكام الأنبياءٍ، ولو كان ذلك مانعاً لما جرت الأحكام، وقد ظهر من أهل التمييز والنظر أن سبينا للكفرة قطع ظهور المجرمين، وأعلى كلمة الدين، وفرق شمل العادين وإن لم تمض الأحكام فمن يقوم بإمضائها، ومن يقدر على إجرائها، وينهض بأعبائها، إلا من ملكه الله سبحانه أزمة الأمر، وجعل إليه العقوبة والزجر، وقد كان رسول اللهً في أيامه أحوج الخلق فيما يقتضي به نظر المكلفين إلى تألف العرب وإدنائها بدفع السبا عنها؛ فرفع صلى الله عليه وآله وسلم السبا عن بعض، وسبى بعضا، وكل فعله إنما هو عن الله تعالى، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم أطبقت العرب على عنادهم وحربهم، ورميهم عن قوس واحدة؛ فلم يمنعهم ذلك(1/113)
من إجراء السبي عليهم، وإنفاذ حكم الله تعالى فيهم.
وقد ذكر القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (القتل والقتال) فقال، لما سئل عليه السلام: سألت بما يحل الدم والمال والسبا، وتجب البراءة والعداوة والبغضاء، ويحرم أكل الذبائح، وعقد المناكح، من الكفر الذي جعله الله تعالى اسما واقعا على كل مشاقة أو كبير عصيان، ومخرج لأهله مما حكم الله تعالى به للمؤمنين من اسم الإيمان بحال كثيرة متفقة في الحكم، متفرقة بما فرق الله بينها في مخرج الاسم لها، جامعة وتفسيرها فتفسيرها كبير وجامعها كلها، وتفسير جميع جملتها فتشبيه الله تعالى بشيء من صنعه كله، أو تجويره لا شريك له في شيء من قوله، أو فعله، وأن يجعل معه إله أو آلهة، أو والداً [أو ولدا]، أو صاحبة، أو ينسب إليه جورا بعينه، أو مظلمة، أو تزال عنه من الحكم كلها حكمة، أو يضاف إليه في شيء من الأشياء كلها، أو يكذب له صراحاً في وعده أو وعيد قاله، أو يضاف إليه سنة أو نوم، أو وصف كان من أوصاف العجز مذموماً، أو ينكره سبحانه منكراً، أو ينكر شيئا مما وصفناه من توحيده، أو يتحير في شيء مما وصفناه به مرتاب، أو يذم له فعلاً أو قيلاً، أو يكذب له سبحانه تنزيلا، أو يجحد له نبيا مرسلا، أو ينسب إلى غيره فعلا من أفعاله كنحو ما ينسب من فعله في الآيات، وما جعل مع الرسل من الأدلة والبينات، إلى السحر والكهانة، والكذب والبطالة، فأي هذه الحال المفسرة المعدودة، والأمور التي ذكرنا البينة المحدودة، صار إليه بالكفر صائر، ثم أقام على كفره فيها كافر، وجب قتله وقتاله، وحل سبائه وماله، ولم تحل مناكحته، ولم تحل ذبيحته، وحرمت ولايته على المؤمنين، وكان حكمهم حكم المشركين. والكتاب كبير هذه زبدته.(1/114)
فهذا كلام الإمام المرتضى، الكبير، العالم، ترجمان الدين، ورأس الموحدين، العابد الخشن، الزاهد الورع، الذي لم يختلف أحد من المسلمين فيما نعلم في فضله وكماله، وكرم خلاله، حتى وافق فيها مخالفه وعدوه، كما دان بها وأظهرها محبه ووليه، قد أتى على كل مرادنا، وكفانا مؤنة الجواب عن كل ما سأل عنه المسترشد أيده الله تعالى ونحن ذاكروا ذلك تأكيدا وتنبيها.
وضع عليه السلام هذا الكتاب في (الحكم) وسماه [أو سماه] بعض أوليائه كتاب (القتل والقتال) فكان فاتحته لأنه جعله جواباً عن سؤال عما يحل الدم والمال والسبا، وتجب البراءة والعداوة والبغضاء، ويحرم أكل الذبائح، وعقد المناكح؛ فهذه أحكام الحربيين كما ترى بغير زيادة ولا نقصان، ثم فسر هذه الجملة بما قدمنا مما تقف عليه. فنص ما ذكر هو كفر الكفار الأصليين والنصارى المضيفين إليه حكم الوالدين تعالى عن ذلك رب العالمين.
ثم ذكر بعد ذلك التشبيه والجبر؛ لأن المجور هو من يضيف إلى الله تعالى الجور وهو ثمرة الجبر لا ينكر ذلك أهل المعرفة.(1/115)
ثم قال فيه عليه السلام: أو ينسب إليه جوراً بعينه وقد نسب المجبرة كل جور على وجه الدنيا إلى الله تعالى، وجعلت ذلك إجلالاً وكل مظلمة، وهذا بنفسه أيضاَ مذهب المطرفية الكفرة الفجرة، لأن عندهم ما حدث في العالم من ظلم، وجور، وطعن، وضرب، وقتل، ورمي، ورجم، فهو فعل الله تعالى لا فاعل له سواه؛ لأن عندهم فعل العبد لا يعدوه ولا يوجد في غيره، ونحن نعلم هذا والكل ممن خالطهم من مذهبهم ضرورة، ونعلم أنهم وإن اختلفوا في فروع لهم فلا يختلفون في هذه المسألة، فقد قضى عليهم بشركهم، وأطلق سبيهم، وأجرى أحكام الحربيين عليهم، وأزالوا عنه تعالى جميع الحكم الذي يتعلق بالنقائض والامتحانات، وقضى عليه السلام بأن من أضاف إلى الله تعالى شيئاً واحداً من الجهالات لحق بالمشركين الحربيين، وقد أضافوا إليه أفعال العباد كلها جهالة وظلماً وضلالاً -تقدس عن ذلك وتعالى- وأضافوا أشياء قالوا: فعلها ولم يردها -فوصفوه بصفة الجاهلين تعالى عن ذلك رب العالمين- وقد قضى عليه السلام بكفر من فعل ذلك، وألحقه بالحربيين بإجراء أحكامهم التي ذكرها عليه السلام من القتل، وأخذ المال، والسبي، وتوابع ذلك، وقال عليه السلام: أو يكذبه صراحا في وعد أو وعيد، وهذه صفة المجبرة عجل الله دمارها وعفا آثارها؛ لأنها قالت: إن الله تعالى لا يدخل المسلمين الجنة بوعده، وإنه لا يفي بخلودهم في النار بوعيده، وكذلك المطرفية الملعونة كذبته في قوله تعالى: ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ?[فصلت:46].(1/116)