نفرقها في أهل الفاقة منا كما قال قيس بن عاصم:
جنوت بها من منقر كل بائس وأيأست منها كل أطلس طامع
يعني أصحاب النبي ً، وكما قال شاعر بني ذبيان:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا .... فوا عجباً ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكراً إذا مات بعده .... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وإن التي سألوكم ومنعتمُ .... لكالتمر أو أحلى لدي من التمر
فالقوم مقرّون بالله وبرسوله ً، وإنما قالوا: لا نحب حملها بعد الرسولً إلى أحد، وأبو بكر لاعتقاده أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقائم من بعده قال: له ما للرسول، ولو صح أنه خليفة لكان حقاً ما قال ولم ينكر عليه أحد قوله على المنبر فكان إجماعاً؛ لأن الأكثر اعتقد إمامته [فأوجب ذلك والأقل فلم يخطئه في أن للإمام ما للرسول وإن كان لا يعتقد إمامته]، ولم يختلف أحد في أن أبا بكر سبى جميع من قاتل، وما سلم ممن قاتله من السبي إلا أهل (بزاخة) فإنهم لقوه بالجيش مجرداً من النساء والذرية وتركوا بينهم وبين الذراري يومين أو نحو ذلك، وما حضرت الجيش امرأة تذكر إلا امرأة طليحة، فلما حقت الهزيمة قدمها بين يديه راكبة وحماها حتى نجت، وملك على بني ذبيان أرضهم -أعني أبابكر بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم- وقال: حرام على بني ذبيان [أن يتملكوا علينا] هذه الأرض بعد أن أفاءها الله علينا. وقال لأصحابه: إن الأرض كافرة. فأخرجها من الحكم الأول ولم ينكر عليه أحد،(1/107)
وما قبض النبيً إلا وجزيرة العرب دار الإسلام لا يشوبه كفر إلا ما نجم في حال مرضهً من الأسود العنسي بصنعاء، ومسيلمة باليمامة فقضى بكفرهمً وأمر بغيلتهم، ومجاهرتهم، فكانت الدار من قعر عدن إلى عمان إلى جفر أبي موسى إلى (تبوك) إلى (آيلة) فما تحوزه هذه التخوم إلى البحر دار الإسلام وما عداها دار حرب [فلما كان من العرب ما كان عادت الأرض دار حرب] إلا القليل كمكة، والمدينة، والظاهر، وصعدة، و(جواثى) قرية من قرى البحرين، وما سواها دار حرب [وردة] فلما دخلت العرب كرهاً في الباب الذي خرجت منه بعد نفاذ أحكام الله تعالى فيها بالقتل والسبي والصلب والحريق والرضح بالحجارة وأنواع التنكيل رجع الإسلام إلى حالته الأولى فقال شاعرهم:
وحبرها الراوون أن ليس بينها .... وبين قرى مصر ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرت بهاالنوى .... كما قر عيناً بالإياب المسافر
فالقوم ما جعلوا بين الإيمان والكفر في تلك الحال واسطة.(1/108)
[ موقف الأئمة من المجبرة والقدرية ]
فأما كلام أهل البيت عليهم السلام في تكفير المجبرة والقدرية فلو عيناه لكم مع كونه موجوداً عندكم لكنا كجالب التمرة إلى البصرة، ومعلم العوان الحمرة، ولكنا نذكر كلمة أو كلمتين كالتنبيه على ما وراءه.
قال القاسم عليه السلام في كتاب (العدل والتوحيد ونفي التشبيه): فذهبت المشبهة إلى أن الله -تعالى عما يقولون علواً كبيراً- تكلم بلسان وشفتين، وخرج الكلام منه كما خرج من المخلوقين؛ فكفروا بالله العظيم، فأطلق كلمة الكفر من غير تقييد فلا بد من لزوم أحكامه وإلا تعرى من الفائدة وذلك لا يجوز في الألفاظ الشرعية.
وقال عليه السلام في كتاب (أصول العدل والتوحيد) بعد مضي نصف الكتاب أو نحوه: فأول ما نذكره من ذلك معرفة الله عز وجل وهي عقلية منقسمة على وجهين وهي: إثبات ونفي، فالإثبات: هو اليقين بالله والإقرار به، والنفي: هو نفي التشبيه عن الله تعالى وهو التوحيد، وهو ينقسم على ثلاثة أوجه:
أولها: الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق، حتى تنفي عنه جميع ما يليق بالمخلوقين في كل معنى من المعاني، صغيرها، وكبيرها، وجليلها، ودقيقها، حتى لا يخطر في قلبك في التشبيه خاطر شك وتوهم ارتياب، حتى توحد الله سبحانه باعتقادك وقولك وفعلك؛ فإن خطر على قلبك في التشبيه خاطرة شك فلم يُنْفِ بالتوحيد خاطرها، ويُحِطْ باليقين البت والعلم المثبت حاضرها، فقد خرجت من التوحيد إلى الشرك، ومن اليقين إلى الشك؛ لأنه ليس بين التوحيد والشرك، وبين اليقين والشك منزلة ثالثة؛ فمن خرج من التوحيد فإلى الشرك مخرجه، ومن فارق اليقين ففي الشك موقعه.
والوجه الثاني: الفرق بين الصفتين حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المحدثين.(1/109)
والوجه الثالث: الفرق بين الفعلين حتى لا يشبه فعل القديم بفعل المخلوقين، فمن شبه بين الصفتين أو مثل بين الفعلين، فقد جمع بين الذاتين، وخرج إلى الشك والشرك بالله، وبرئ من التوحيد والإيمان، وحكمه في ذلك حكم من أشرك واعتقد ذلك، وافترى فشك؛ فهذا كما ترى تصريح بكفر المجبرة والمشبهة وشركهم وبراءتهم من الإيمان والتوحيد، كما ترى حكمهم عند أئمة الهدى عليهم السلام وإن لم يعللوا الفتاوي ويطولوا في أمرها، وكلام الهادي عليه السلام نحو ذلك، وكلام الناصر عليه السلام أشد من ذلك.(1/110)
وقد قدمنا جملة كلام أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة ولم نعنى بالتطويل به لكونه معلوماً موجوداً، وضرورة علم ذلك لأهل المعرفة من أهل الاعتقادات الصحيحة والعدل والتوحيد كثر الله جماعتهم، وقوى جندهم، ولسنا نتمكن من حصر إطلاقات هؤلاء الأئمة الثلاثة عليهم السلام في كتبهم بتكفير المجبرة والمشبهة والقدرية والقضاء بشركهم تصريحاً-أعني القاسم بن إبراهيم، وابن ابنه الهادي يحيى بن الحسين، والناصر الأطروش عليهم السلام ، وأما الإشارات والتخريجات من كلامهم فمما لا يتحد، ولولا ذلك لما خرجت أحكام أشياعهم رضي الله عنهم أجمعين تسبي فرق الجبر، والقدر، والتشبيه، والإلحاد، من يوم دخلهم الإسلام إلى يومنا هذا بالجيل والديلم، وهم أهل التفتيش والضبط لعلوم الأئمة عليهم السلام وما نعلم أن لأحد من أشياعنا مثل ضبطهم، وحفظهم، وتحقيقهم، وتدقيقهم، في علوم آبائنا عليهم السلام ولم تزل أيديهم ظاهرة على جميع الفرق الضالة، والسبي منهم مستمراً، والغزو عليهم دائماً، واليد لهم إلى ثلاثة أعصار إلى يومنا هذا من سنة ستين وخمسمائة، وكلبت عليهم جنود الجبر والإلحاد أخزاهم الله تعالى فغزوا الإخوان وسبوهم، وتفرقت كلمة السادة و الشيعة فطمع فيهم عدوهم، ومنهم من امتنع من الحج، وقضى علماؤهم بسقوط فرض الحج عنهم، لكون مرورهم على بلاد المجبرة، ولا يمكن لهم من الإحتراز من رطوباتهم، وهم يرون تنجيسها بشركهم؛ فأثبتوا فيهم أحكام المشركين وبعضهم، بل أكثرهم على ما نقل لنا من الثقات عنهم، ورأينا منهم لا يستنفعون بالزعفران، ولا يأكلون طبيخاً هو فيه -لكون الزعفران من بلاد المجبرة- ولا بد من ترطيبهم له عند جناته من أشجاره، وهذا ظاهر فيهم، معلوم لنا من أحوالهم، وما ذلك إلا لتكفيرهم لهذه الفرق المذكورة، وإجرائهم لأحكام الكفار عليهم، وهم متفقون على الرواية عن هؤلاء الأئمة عليهم السلام أن حكم المجبرة حكم الحربيين، ويرون اختلاف هؤلاء(1/111)