قلنا: المراد أعمال الخلافة، فنحن لا نخالف بأن هؤلاء المذكورين فعلوا فعل الأئمة وإن لم نقل بإمامتهم مدة أيامهم، ثم انتقل الأمر إلى بني أمية فكفرهم ظاهر، فكيف يطلب منهم تعرف الأحكام ولم نسلم الشهادتين وظاهر الإسلام منهم إلا بالدعاء، ولو طمعوا أن الملك يبقى لهم مع عبادة الأوثان لما أُمن ذلك من بعضهم، فالله المستعان، أفليس منهم من أمر المجوسي يعمل له قبة على ظهر الكعبة شرفها الله ليشرب فيها الخمر فانتقمه الله قبل ذلك -وهو الوليد بن يزيد- وهذا من غايات الكفر، وهو الذي حرق المصحف وقال الأبيات المشهورة:
أتوعدني بجبار عنيد .... وها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر .... فقل: يا رب حرقني الوليد
ثم أخذتها منهم بنو العباس سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى يوم الناس هذا؛ فيوم كان الإسلام يعمل به ويوقف عند رسومه، عدت ملة الإسلام من ترك شيئاً من خصاله كان مرتدا، وقتلوا وسبوا ولم يتناكروا في ذلك، ونكحوا من السبي واستولدوا، فأفضلهم علي بن أبي طالب سلام الله عليه أخذ خولة بنت يزيد من بني حنيفة من السبي، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول اللهً، وكذلك الصهباء أم حبيب ابنة ربيعة بن بجير من سبي بني تغلب فولدت له عمر بن علي ورقية بنت علي، وقد ذكرنا هذا مبرهناً في (الرسالة الهادية بالأدلة البادية) وما ذكرنا من ذلك إلا ما هو سماع عمن نرتضي فما المانع أن يكون أصلاً .
فأما ما أخذنا من كتاب (الردة) فهو كتاب قائم بنفسه وكان وضعه بأسانيده على جاري عادة أهل العلم فحذف الشيخ إسحاق قال: أسانيده لطلب التخفيف على جاري عادتهم في حذف الأسانيد عندنا، وقد تقررت هذه المراجعة ووقع عليها الاتفاق ممن يصح اتفاقه من أهل المعرفة أن الرواية من الكتاب المشهور تصح كما تصح من الشيخ.(1/97)


وأصل ذلك ما أجمع عليه الصحابة من قبول الرواية من كتاب عمرو بن حزم رحمه الله تعالى ولم يروه لهم أحد، فكان ذلك أصلاً لنظائره، ولأنا يحصل لنا برواية الواحد غالب الظن أن هذا من فلان وأن هذا قاله فلان، وقد علمنا ضرورة بخبر الخلق الأكثر أن هذا الكتاب مثلاً الذي هو كتاب (الأحكام) تصنيف الهادي عليه السلام بحيث لو أن إنساناً انتحله أو أظهر التشكك وقال: أما كتاب (الأحكام) فلم يصنفه الهادي عليه السلام لتشكك أهل العقول في كمال عقله، وكذلك لو أن إنساناً ممن يتعلق بالعلم قال: ولم يحارب أبو بكر أهل الردة ولا سباهم لأجل الردة، أو قال: كانت ردتهم بعبادة الأوثان لعلم أهل العلم جهله أو اختلال عقله إن كان من أهل العلم؛ فحرب أهل الردة معلوم جملته، وتفصيله ضرورة كما يعلم صفين والجمل فهذا وجه. والوجه الثاني: أن أخبار الردة مسموعات لنا مستوفاة ذكرها (محمد بن جرير) في كتابه مفصلة وهو لنا سماع وعليه بنينا ما في (الهداية)، وذكرها القضاعي جملة، وهو لنا سماع أيضاً، فقد ثبت ما رويناه واعتمدنا على الاستدلال به بكل طريق، وإن كان علي عليه السلام هو قدوتنا وهو الإمام المعصوم فوطئ بملك اليمين من المرتدين [من] قدمنا ذكره وهو معلوم لنا، وذكره العقيقي عليه السلام في أنسابه وهو لنا مسموع وهذا أظهر الأدلة لمن تأمله.(1/98)


[ موقف الأئمة من السبي ]
ولما استقام الأمر له عليه السلام كان في أيامه سبي بني ناجية وبيع معقل بن قيس الرياحي رحمه الله من مصقلة ابن هبيرة رواية بخمسمائة ألف ورواية بأربعمائة ألف؛ لأنها ذراري قبيلة ذكر أنه سبى منهم ألف بنت نسائهم وأطفالهم، وذكرهم في كتاب (نهج البلاغة) وهو لنا مسموع أيضاً وطلب المسلمون لما هرب مصقلة ولحق بمعاوية ردهم في الرق فقال عليه السلام: لا سبيل لكم عليهم وقد أعتقتهم وإنما لكم مال غريمكم وقال: قبّح الله مصقلة فعل فِعل الأحرار وهرب هرب العبيد، أما إنه لو أقام لأخذنا ميسوره وانتظرنا بماله وفوره. وهم عرب ممن كان قد عظم عناؤه في الإسلام يعلم ذلك ضرورة لنا ولأهل العلم.(1/99)


وذكر يحيى بن زيد عليه السلام لما دخل عليه كبار العرب من جنود بني أمية يلومونه ويعنفونه فكان يسأل عنهم واحداً واحداً ويرد على كل إنسان ما يصلح أن يرد على مثله حتى كلمه صاحب بني ناجية فقال: من أين هذا؟ قيل: من بني ناجية. فقال: لا تلامون على بغضنا أهل البيت لأثر أبي الحسن فيكم يعني قتله لمقاتلتهم وسبيه لذراريهم ؛ ولم نعلم منهم ولا ينكر من يراعي أحكام العلم إنكاره إلا منعهم الصدقة عامين: عام صفين والعام الذي بعده، وذلك لوجدهم على علي عليه السلام لما نفاهم من نسب قريش فقضى بردتهم لذلك، ومهما وقع فيه النزاع فلا نزاع في أن كندة في حضرموت ارتدت على ناقة تسمى (شذرة) خرجت في سهم الصدقة وأبى صاحبها إلا استرجاعها ورد بعير مكانها وكره (زياد بن لبيد) رحمه الله ذلك، فتمادى الشر حتى شبت الحرب، وكانت شذرة عليهم مثل ناقة البسوس فقتلت مقاتلتهم وسبيت [ذراريهم]؛ وحادثتهم ظاهرة عند أهل العلم؛ وما عبدوا صنماً، ولا ادعوا سوى الله ربا، ولا انتحلوا سوى الإسلام دينا، ولا يمكن أحد إلا يباهت دعوى شيء من ذلك؛ وقد ذكرنا قصتهم في (الرسالة الهادية) مستوفاة فاستغنينا عن إعادتها هاهنا؛ وعلي عليه السلام بين ظهراني الجماعة فما أنكر شيئاً من ذلك ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقد ذكرنا في الرسالة الهادية نساء بأسمائهن [كن] مع أفاضل الصحابة معروفات النسب في العرب سوى من كان مع علي عليه السلام، وإن كان علي القدوة ولكن ذلك لا يزيد الأمر إلا تأكيداً ولا وجه لملكهن إلا كفر أهلهن.(1/100)


وأظهر من ذلك لأهل المعرفة المتأملين أن الحسن بن علي عليه السلام وهو الإمام المعصوم تزوج خولة ابنة منظور بن سيار من عبد الله بن الزبير وهو قرشي وهي فزارية وأبوها منظور بن سيار قريب الدار، فلما علم أبوها بذلك دخل المدينة ونصب فيها لواءً فما بقي قيسي حتى دخل تحته وقال: يا معشر قيس أمثلي يقتات عليه في ابنته. والقصة طويلة معلومة لأهل البحث، ولا نعلم لذلك وجهاً إلا أنه علم كفره ببعض مسائل الكفر فأسقط حكم ولايته على ابنته ووطئها صلوات الله عليه بعقد من الزبير وأمره، وأولدها الحسن السبط الحسن الرضى عليهم السلام وبماذا يتعلق ويفصل بين الحق والباطل إن لم يُرجع في هذه الأصول الدينية إلى ما ذكرناه.
وأما كلام محمد بن عبد الله عليه السلام في سيره فهو لنا مسموع، وهو يؤيد ما قلناه ولا ينافيه كما قدمنا الكلام فيه، ونحن حاكوه لك وإن كنت غير جاهل به، ولكن لتردد الكفر في معانيه فتعلق الفائدة بالعقل السليم إن شاء الله تعالى.
قال عليه السلام في المرتدين: إذا غلبوا على مدينة في أرض الحرب ومعهم نساؤهم وذراريهم وهم مرتدون وليس في المدينة غيرهم فقاتلوا المسلمين، فإن المسلمين إذا ظفروا بهم قتلوهم وسبوهم وسبوا ذراريهم، وضربوا عليهم السهام، وأخرج منهم الخمس.(1/101)

20 / 92
ع
En
A+
A-