وتحقيق أقوالهم وحقيقة عقائدهم يحتاج إلى دراسة كل ما وردنا عنهم، منهم وممن نسب إليهم وانتصر لهم، ومن خصومهم الذين ألفوا الكثير من الرسائل والكتب في الرد عليهم - ومنها التي سنذكرها لاحقاً - وخصوصاً تحقيق النصوص والأقوال حول ما نسب إليهم من أنهم طبائعية، ينفون التأثير لله، وهل هذا القول إلزام؟ وهل حقيقة خالفوا كتاب الله تعالى؟ كذلك قولهم: إن الخلق تساووا في ست خصال هي: الخلق والرزق والموت والحياة والبعث والمجازاة، وما نسب إليهم أيضاً من أقوال حول المرض والموت وحدوث العاهات والآفات وحول النبوة، وهو ما لم يدرس بتجرد وإنصاف إلى اليوم، ونأمل بتحقيق مثل هذه الرسائل وأمثالها أن يجد الباحث المنصف المصادر التي تمكنه من إدراك الحقيقة، بعد المقارنة بين النصوص والاستقصاء للشواهد التأريخية التي وردت عن فترتهم ابتداء من تحديد تأريخ المناظرة التي قيل: إنها سبب نشأتهم، وانتهاء بآخر ظهور لهم.
ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن كل من قام من آل البيت -منذ ظهورهم- محتسباً أو إماماً قد أنكر عليهم أو حاربهم:
وأولهم الإمام أبو هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى الملقب بـ(النفس الزكية) الذي دخل صنعاء سنة426هـ، وأقام بها محتسباً، ثم توفي سنة431هـ بناعظ من بلاد حاشد، وكان ممن أنكر مذهب المطرفية كما ذكر يحيى بن الحسين في (غاية الأماني).
وكذلك الأمير حمزة بن الحسن، الذي قام محتسباً ولم يدع الإمامة، وقتل سنة459هـ، في أحدى حروبه مع الصليحيين، أنكر أشياء كثيرة على المطرفية.
ثم الإمام أبو الفتح الناصر بن الحسين الديلمي، الذي قدم من بلاد الديلم سنة430هـ، ودعا إلى نفسه سنة437هـ، واستمر في كرٍّ وفر حتى قتله الصليحيون سنة444هـ، له عدة مصنفات منها في الرد على المطرفية (الرسالة المبهجة في الرد على الفرقة المتلجلجة).(1/6)
ثم الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان الذي دعا سنة532هـ، وتوفي سنة566هـ، في أيامه كانت المطرفية قد بلغت قوتها، فاستعان بالقاضي جعفر بن عبد السلام الذي أتى بكتب المعتزلة من العراق يناظر المطرفية ويجادلهم بعد أن كان مطرفياً ورجع إلى مذهب الزيدية المخترعة، وللإمام أحمد بن سليمان عدة مصنفات يرد بها على المطرفية، منها: (الهاشمة لأنف الضلال من مذاهب المطرفية الضلال الجهال)، و(الرسالة الواضحة الصادقة في تبيين ارتداد الفرقة المارقة المطرفية الطبيعية الزنادقة).
ثم يأتي في الأخير المؤلف الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، الذي بويع سنة594هـ، وكان أغلب المطرفية قد دخلوا تحت بيعته، ثم دارت الأيام وجرت بينه وبينهم مراسلات ومناظرات، وأقاموا عليه محتسباً الإمام العفيف، قال يحيى بن الحسين: (ليدافع عنهم ضد ما وقع من الإمام المنصور عليهم من قبضه ما كانوا يأخذونه من أهل وقش ونواحيها من زكاة ووصايا وأوقاف ونحو ذلك)، وبعد أن أخذ في مناظرتهم أولاً بالدليل والبرهان، واستنفذ كل جهد في مراسلتهم ومحاولة ردهم - كما يظهر من مجموع كتبه ورسائله الذي سينشر لاحقاً ضمن مكتبة الإمام المنصور - حكم بكفرهم.
إلا أنه لم يحاربهم من قيامه سنة594هـ إلى سنة602هـ، التي وقعت فيها أحداث متفرقة جعلته يهتم بأمرهم، ومن ذلك مكاتبتهم في التحريض عليه، وقدومهم إلى وردسار إلى صنعاء حيث طلبوا منه المعونة على خراب هجرة سناع، وكان حينها في صلح مع الإمام، وفي هذه السنة طلبوا الإمام للمناظرة في مسور، وكان حينها مشغولاً بقتال أهل الجوف الذين خالفوا عليه، وكانت المراسلات مع مشائخ مسور، وبذل الإمام الأمان لوصولهم إليه، وانتهى الأمر بتخوف كل من الطرفين من الوصول إلى الآخر للمناظرة لأسباب عدة.(1/7)
وفي سنة603هـ نقض وردسار الصلح مع الإمام، وكان للمطرفية ضلع في دعمه على نقض الصلح والوقوف معه، لكن الإمام التقى وردسار إلى البون وكانت الدائرة على الأخير، ليتفرغ الإمام بعد ذلك إلى المراسلة مع المطرفية أهل قاعة ووقش وسناع، وتوعدهم وحكم بتكفيرهم وجواز تشتيتهم واستباحة أموالهم إن لم يتركوا مذهبهم، فتركوه رغبة ورهبة، ورجع إليه من رجع وهدأت الأمور بعد ذلك من هذه السنة إلى سنة610هـ.
قال يحيى بن الحسين: (وفيها قام رجل يسمى محمد بن منصور بن مفضل بن الحجاج مع المطرفية أهل وقش، وأنكر على الإمام المنصور بالله ما وقع منه من تكفيرهم وسار إلى مدع ومسور، وحارب أهل عزان والمصنعة وهما حصنان للإمام وأجابه كثير من حمير، فجهز عليهم الإمام أخاه بعسكر من حاشد وبكيل فلم يظفر بهم، فتوجه إلى بني الفليحي غربي مدع فقتلهم وسباهم وأرعب قلوب أهل تلك الجهة، فصالحه سلاطين مسور).
مما سبق نلاحظ أن الإمام المنصور لم يبدأهم بالحرب، بل كانوا هم البادئون، وبالتالي حكم عليهم بالردة واستباح سبيهم وأمر به، وألف في ذلك الكثير من الرسائل يبرر فيها موقفه من تكفيرهم ومن حربهم، ويرد على من أنكر عليه السبي، مستشهداً بأحداث الردة وما ورد في أحداثها من سبي لنساء المرتدين وأبنائهم.
وفي هذا الجزء من المجموع المنصوري نجد رسائل مهمة في هذا الموضوع كتبها الإمام في السنوات الأربع الأخيرة من عمره، وهي الرسالة الهادية، والدرة اليتيمة، وأجوبة مسائل تتضمن ذكر المطرفية، وسيأتي في بقية أجزاء المجموع وفي مجموع مكاتباته ومراسلاته المعد للنشر الكثير حول الموضوع.
وخدمة للباحثين عن الحقيقة في هذا الموضوع رأينا أن من المفيد سرد بعض المصادر التي كتبت عن المطرفية على حد علمنا.(1/8)
أولاً: المصادر المطرفية
1- مسلم اللحجي: المتوفى في حدود 545هـ.
تأريخ مسلم اللحجي ويسمى (طبقات مسلم اللحجي).
قالوا: وقد اعتنى فيه بذكر أصحابه وأساتذته من رجال المطرفية منذ وفاة الهادي سنة298هـ إلى منتصف القرن السادس الهجري، وجعلهم خمس طبقات:
الأولى: أولاد الهادي ومن عاصرهم، وذكر الحروب بين الناصر والقرامطة.
والثانية: في ذكر المختار بن الناصر وأولاده وبني الضحاك وأحمد بن موسى الطبري.
والثالثة: من أخذ عن الطبري، مثل: مطرف بن شهاب وابن أبي الفوارس والإمام القاسم العياني، وسائر العلماء ممن أخذ عن أهل الطبقة الثانية، وذكر المسائل التي اختلف فيها وعليها علماء وفقهاء الزيدية.
والرابعة: عمن أخذ عن مطرف بن شهاب مثل: نهد بن الصباح وابن صعتر وغيرهم.
والخامسة: فيمن عاصرهم مسلم من علماء المطرفية، وهو بذلك قد غطى 240عاماً.
[الشامي: تأريخ اليمن الفكري في العصر العباسي، 3/127]
قال الحبشي: مخطوطة بمكتبة خاصة عند أهالي اليمن، الجزء الرابع فقط، خُطَّ سنة650هـ، وأخرى من الجزء الرابع بالمكتبة الأهلية بباريس برقم5982، ثالثة بجامعة الملك محمد بن سعود بالرياض، وعند الأديب أحمد الشامي نسخة مصورة منها.
وقال إسماعيل الأكوع في هجره: الموجود من هذا الكتاب الجزء الأول والثاني وكذلك الرابع، وقد نشر الجزء الأول المستعرب الألماني ويلفرد ماديلونغ سنة1990م.
وذكر له علي محمد زيد الجزء الرابع من هذه الطبقات، وكتاب فيه شيء من أخبار الزيدية في اليمن - مخطوط في مكتبة برلين (60-b38)9664.
وقد ذكر لمسلم كتاب (الأترجة) في شعراء اليمن وهو مفقود، اطلع عليه القفطي، واشتمل على ذكر شعراء اليمن في الجاهلية والإسلام إلى عصر المؤلف، كما ذكر له إسماعيل الأكوع كتاب (المثلين) وقال: حققه فيصل مفتاح الليبي، ونال به الماجستير من جامعة قار يونس.
[انظر أعلام المؤلفين الزيدية ترجمة1102](1/9)
2- سليمان بن أحمد المحليّ: وهو شخص يكاد يكون مجهولاً، لا يذكر عنه علماء التراجم شيئاً يساعد على تحديد الفترة التي عاشها بدقة.
قال الحبشي: لعله عاش أثناء القرن السادس الهجري، وقال السيد يحيى بن الحسين في المستطاب: من علماء المطرفية ومن المتأخرين منهم، وقال علي محمد زيد: ويمكن الاستنتاج من ذلك أن المؤلف من رجال أواسط القرن السادس الهجري وأنه ألف هذا المؤلف بعد الخلاف مع جعفر والإمام أحمد بن سليمان.
قلت: واسم المؤلَّف: (البرهان الرائق المخلص من ورط المضائق).
قال الحبشي نقلاً عن المستطاب: ويتضمن اعتقاد أهل مذهبه من المطرفية فيما وافق مذهب الإمام الهادي عليه السلام (مخطوط) خُطَّ في القرن السادس الهجري في 241ورقة برقم673 (مكتبة الأوقاف - الجامع الكبير)، مصور بدار الكتب المصرية برقم146.
وقد نقل علي محمد زيد عنه الكثير نقلاً مبتسراً مشوهاً، وتدخل بكلامه وتعليقاته فلم يبق من النص إلا بعض فقرات، وكأنه حاول أن يعرضه عرضاً على طريقته. ولأهمية هذا الكتاب الوحيد في علم الكلام المنسوب إلى عالم مطرفي، ينبغي الاهتمام به وتحقيقه ونشره كاملاً غير منقوص، مع دراسة عن المؤلف الذي يكاد يكون مجهولاً ما عدا اسمه.(1/10)