[ ردة المطرفية ]
وعند المطرفية أخزاهم الله أن جميع المكلفين قد اشتركوا في النبوة، وإنما تأخروا عن ذلك لتركهم ما وجب عليهم، ولتقصيرهم فيما أمروا؛ فقد زادوا على ردة بني حنيفة، وكذلك فردة المجبرة والمشبهة هي بالزيادة؛ لأنهم سلموا جملة الإسلام، وزادوا فيه أن الله جسم، وأنه يُرى، وأن الله قضى بالمعاصي وأرادها وفعلها، وهي قبيحة، والإسلام متقرر أن أفعاله تعالى كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب؛ فهذه ردة بالزيادة أيضاً، بل هي أقبح من ردة بني حنيفة؛ لأن عند بني حنيفة أن دعوى مسيلمة النبوة من عنده، وأن الله صدقه في دعاويه، والمجبرة عندهم أن الدعوى والتصديق كله من الله تعالى؛ فعندهم تنبي مسيلمة من الله تعالى، ونبوة محمدً من الله، فالكل في الصحة والبطلان عندهم على سواء، فزادوا على ردة المرتدين، وكفر الكافرين.
وأما الردة بالنقصان فكردة (البدعية) فرقة تدعي الإسلام، ولها أقاويل ردية منها: أن المفروض من الصلوات ثلاث لا غير؛ فردوا ما هو معلوم ضرورة من دين النبيً، وكذلك (الصباحية) قالوا: إن سبي أبي بكر لأهل الردة ضلالة، وأن الصحابة أجمعوا على الضلالة فكفرهم المسلمون بذلك، وكمن يرد شيئاً مما علم من دين النبيً ضرورة كترك الصلاة والصيام، والحج والجهاد، وأن ذلك أو بعضه غير واجب في الأصل، أو أن المراد به غيره؛ فهذه كردة (الباطنية) ومن نحا نحوها.
فإذا تقررت هذه الجملة وقع الكلام في الجهة التي يحكم فيها بالردة على أي صورة تكون وبالله التوفيق.(1/92)
[فنقول وبالله التوفيق]: كل جهة كان أحد هذه الوجوه الثلاثة الأغلب عليها فإنها تكون أرض ردة بلا إشكال، وإنما بقي فيها يقول بغير تلك المقالة إلا أن الغلبة لمن يقول بها وهو الأظهر؛ فإنا نعلم أن مكة حرسها الله تعالى وطهّرها قبل الهجرة كانت كلمة الكفر فيها الأظهر والأقوى، وكانت كلمة الإسلام فيها ظاهرة أيضاً، إلا أن القوة والشوكة لكفار قريش لكثرتهم، فكانت الدار دار حرب بلا خلاف، وإن كان من بني هاشم وأهل البيوت العالية من قريش من يظهر دين الإسلام بلا ذمة ولا جوار، ولا محاشاة من أحد، ولكن الغالب الكفر ورسول اللهً ما احتاج إلى جيرة أحد من قريش في تبليغ الرسالة، وتسفيه أحلامهم، وسب أصنامهم وآبائهم حتى مات عمه أبو طالب فاحتاج إلى التقوي بجوار (مطعم بن عدي) والكل منا يعلم أنه لا يقدر على تسفيه أحلام المجبرة، وسبهم، وعيب دينهم، وكذلك المطرفية إلا بذمة أو جوار، وربما لا يعصم ذلك من شرهم فهم أقبح حالاً من الكفار الأصليين؛ فإذا كانت لهم شوكة فهي تكون دار حرب بلا إشكال؛ لأن دار الحرب هي التي تكون الغلبة فيها للكفر، كما أن دار الإسلام تكون الغلبة فيها للإسلام، ودار الكفر لا تكون دار كفر بأن تجمع أنواع الكفر ولا [يقل] بذلك قائل، ودار الإسلام لا تكون دار إسلام بأن تجمع أنواع الإسلام ولا بذلك قائل؛ فإن المراد الأظهر والأكثر كما قدمنا أصله. فتأمل ذلك تجده كما قلنا بغير زيادة ولا نقصان في المعنى، لمن تأمله ونظر فيه بعين النصفة؛ وذلك لأن التحديد بما ذكرناه صحيح لا ينتقض على أصله المجمع عليه في أمر مكة حرسها الله تعالى قبل الفتح؛ فإن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه [وآله وسلم] كانت فيها ظاهرة، ويقع فيها الجدال والحجاج على أعيان الملأ، وكانت الغلبة للكفر وأهله فكانت دار حرب قبل الفتح بلا خلاف مما وجدت في هذه الصورة، وإن ظهرت فيها الشهادتان فهي دار حرب بلا خلاف وإلا انتقض(1/93)
الأصل وانتقاضه خروج من الدين، ولم يختلف أحد من أهل العدل الأكابر من الأئمة عليهم السلام ومن علماء الأمة من الزيدية والمعتزلة أن المجبرة كفار؛ فأما المشبهة فلا كلام أن كفرهم ثابت بلا نزاع وإنما اختلفوا في تكفير من لا يكفرهم، أو في تكفير من [لا يكفر] لا يكفرهم؛ فهذا الذي وقع فيه النزاع لا غير، وإذا كان ذلك كذلك وقد تقررت هذه الجملة.
قلنا: بأن المجبرة والمطرفية ومن جرى مجراهم كفار أصلا ودارهم دار حرب قطعاً وليسوا بالمرتدين، وإنما نقول: مرتدين تقريباً وتلقينا؛ لأن المرتد هو من كان مسلماً فكفر، وهؤلاء لم يعرفوا من آبائهم وآباء آبائهم إلا الكفر لقولهم بالجبر والقدر، والإرجاء والتطريف والتشبيه؛ فإن كان الإسلام قد عم أرضهم فيما سبق، فلا يكون أعم مما سبق في مكة حرسها الله تعالى لأنها أرض قبلة أنبياء الله سبحانه ما خلا موسى وعيسى، ومهبط وحي الله، وأول بيت وضع في أرض الله، وأسست على التقوى، وكل نبي انتقم الله قومه هاجر إليها وعبد الله ومن اتبعه من المؤمنين فيها حتى يلقى الله، وهي بيت آدم عبد الله، وإبراهيم خليل الله، وإسماعيل ذبيح الله، فلما غلب عليها الكفار كانت دار حرب ودار كفر، وكون آبائهم على الإسلام لا تبلغ درجة النبوة؛ فأبناء الأنبياء لما كفروا حكم عليهم بالكفر، ولم يختلف في الحكم بالكفر على الكافر متى كان بالغاً؛ وإنما اختلف في الصغير إذا نطق بالكفر وتعلق به هل يحكم بردته أم لا؟ فأما الكبير فلا خلاف بين الأمة فضلاً عن الأئمة عليهم السلام في ذلك فقد صار من ذكرنا من هذه الفرق كافراً بالاتفاق من أكابر علماء [أهل] العدل، وكفره متوارث عن آبائه، والدار دارهم، والغلبة لهم، فهي دار كفر مستبين، ودار حرب بيقين، وإنما قدرنا المسائل في الابتداء على أبلغ الوجوه بأن قلنا: إنهم ارتدوا عن الإسلام بما ارتكبوا من الإجرام، وإلا فكفرهم أصلي، وشركهم جلي بنص القرآن وتحقيق أئمة علماء [أهل] الإيمان(1/94)
قال الله تعالى: ?وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ?[فصلت:6، 7] فسماهم مشركين بمنع الزكاة فهذا اسم منصوص عليه شرعي وهو عمدة المسلمين في حرب كثير من العرب وسبيهم مع اعترافهم بجملة الإسلام، إلا أنهم منعوا الزكاة، وهذا معلوم ضرورة لأهل العلم أن أبا بكر ما حارب إلا أهل الردة بعد النبيً وأن الردة كانت بأنواع: أحدها منع الصدقة مع الاعتراف بجميع خصال الإيمان، وقال تعالى: ?وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[البقرة:254]، وقال تعالى: ?وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ?[العنكبوت:54]، وقال تعالى: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97] فسمى تارك الحج كافرا، وقال تعالى: ?لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ?[آل عمران:141]، قسمهم قسمين ممحص وممحوق.(1/95)
[ دار الفسق وأحكامها ]
فنحن أيدك الله بتوفيقه أخرجنا وحققنا في أن جعلنا قسماً ثالثاً فاسقاً وإلا فالأصل الإيمان والكفر، وكل آية يوجد فيها اسم الكفر [واسم] الفسق فلأن الفسق أحد أسماء الكافر بالإجماع؛ لأن عندنا أن الكفر يدخل تحته الفسق؛لأن أكفر الكافرين إبليس عليه اللعنة فسماه الله تعالى فاسقاً، وذلك ظاهر في قوله تعالى: ?إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ?[الكهف:50] فسماه فاسقاً، وقال تعالى: ?سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ?[الأعراف:145] بعد ذكره الكفار فكان تجريد اسم الكفر لهم، وأصل الفسق الخروج عن الدين وهم بلا بد خارجون، فنحن أخرجنا الفساق عن أمر قد كانوا داخلين فيه، وجعلنا لهم بالعلم المبين اسما وحكما، وإلا فكانت الظواهر من كتاب الله تعالى وسنة نبيهً قد التهمتهم، والأحكام من ظواهر كلام الأئمة عليهم السلام قد اصطلمتهم؛ فإن رام رائم إخراج الكفار عن الاسم والدار كان هذا زيادة في الحد وهو نقصان في المحدود.
فأما فعل الأئمة عليهم السلام فهو محتمل وجائز، وأما فتاويهم سلام الله عليهم فهي مقصورة على ما مست إليه الحاجة ودعت إليه الضرورة، وأعمال الدين إنما استقامت بعد رسول اللهً ثلاثين سنة، ولهذا احتجت العامة بما روي عن النبيً أنه قال: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة وبعد ذلك ملكاً عضوضاً)).
قالوا: فهذا دليل على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن مجموع أيامهم تكون ثلاثين سنة.(1/96)