[ بحث مفيد في تغيير المنكرات وعدمه على حسب الأحوال ]
قال الناصر الأطروش عليه السلام في كتاب (المسفر) رواية العالم يوسف بن أبي الحسن بن أبي القاسم الجيلاني من علماء الزيدية بالجيل والديلمان عنه بالكتابة منه ومن المحمدين ويحيى بن شهراقيم الناقل عنهم هذا قول الإمام الناصر عليه السلام، فإذا كثر ناصروه واشتدت أسرته ولم يخش فساداً، ولا رأى لينا في إمضاء الأحكام، وإنكار المنكر والآثام، ومنع الفاسق والظالم، أمضى الأمر مجتهداً غير وان، ولا مرتقباً خوفا إذا كانت شوكته قوية، وصحت من كل أصحابه لطاعته النية، ولا يكون فضاً غليظاً ينفر عنه الناس؛ لأن الله تعالى قال لنبيهً: ?وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ?[البقرة:159] ولا يقيم حدا عند ملاقات العدو لئلا تنفر قلوب أصحابه، فإنه لا يأمن أن يكون لمن قام عليه الحد أسرة وأخدان وأقارب تضعف نياتهم عن صدق المصاع، ومكافحة الجلاد، غضباً لما نزل بصاحبهم أو يخاف مع ذلك على نفسه منهم لما روي عن النبيً أنه أمر أن لا تقام الحدود في الحروب وعند مواجهة العدو.
وقال عليه السلام: ويصبر من أصحابه على ما يراه من معاصيهم لله تعالى التي لا يتمكن من تغييرها إذا كانت غير مظاليم الخلق، فأما إن كانت هي مظالمهم فلا يسعه إلا تغييرها مع القدرة والانحياز عن فاعلها كما روى عنه الحسن بن أحمد أنه عليه السلام: عزم على المهرب إلى البيت وهي بلد (بالاستندارية) كما هرب محمد بن إبراهيمعليه السلام لما كثر ظلم أصحابه لأهل (لاولج) بلد بالديلم.(1/87)


قال الناصر عليه السلام: فأما المعاصي التي هي غير المظالم فليس عليه جناح منها إذا لم يمكن تغييرها لقوله تعالى : ?يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ?[المائدة:41] فإن هؤلاء قد أظهروا الإقرار والإيمان كما أظهر أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم فأمره تعالى بالصبر على ما عاين مما غمه وأحزنه من الفريقين، ولا يمكن تغييره إلا بأن يأتيه اليقين، وهو الحق الذي وعده من نصره، فإن التدبير في حفظ البيضة واجتماع الكلمة من العسف والحرب. قال عليه السلام: وليكن إنكار المنكر على حسب إمكانه بالكلام إذا غلب في ظنه أنه ينفع، و بالسوط إذا كان القول لا يمنع، ثم السيف إذا أمكنه ولم يكن من أنكر عليه مرتدعاً فإنه كالطبيب كما يتيسر من الدواء ولا يهجم على الكي والقطع إلا إذا أعياه الداء، فإن أجزأ الدواء وإلا الكي، وآخر المعروف بالسيف حتى يتجلى له الأمر، فيمضي الحدود كما أمر الله تعالى، ولا تأخذه رأفة بأحد، ولا رقة عليه فإن ذلك فساد في الدين، وزوال طاعته عن إمرة المؤمنين.
وروى عنه محمد بن زيد الحسني عليه السلام أنه قال: اشتدوا - رحمكم الله - على الفاسقين، وأغلظوا فإنكم إنما تؤتون من الضعف والونية، فلا تشتغلوا بقول من يقول: ارحموا أهل البلاد ومن لا يرحم لا يرحم، فإن الله سبحانه يقول: ?وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّه?[النور:2]، وقال سبحانه في بني إسرائيل لما كان الرجل يرى أخاه على الذنب فينهاه ولا يمنعه ذلك من مجالسته ومؤاكلته : ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ?[المائدة:78].(1/88)


فهذا فصل ذكرناه وإن كان بعض ما فيه لا يتعلق بغرضنا فهو لا يتعرى من الفائدة، وما يتعلق بما نحن بصدده إلا التشدد على الفاسقين في إمضاء أحكام الله تعالى عليهم عند الإمكان، والكافرون بذلك أولى عند أهل العلم، ولولا قدرتنا ما أمضينا من الأحكام ما أمضينا، وسائر ما ذكر عليه السلام مفيد وليس من هذا الباب، ولكن فيه للمتأمل أنا حملنا نفوسنا في إصلاح ظواهر الأصحاب في حال الضعف ما لم يكن يلزمنا عند أهل العلم طلباً لرضى رب العالمين، وتقوية لقواعد الدين؛ ولا يعرف حسن سيرنا العارفون إلا بعد لحوقنا برب العالمين، يستقبحون ما استحسنوا من الطعن، ويستحسنون ما استقبحوا من الأعمال، فإن كان ذلك لا بد من كونه قالوا ما قال علي عليه السلام:
واثكلها قد ثكلته أروعا أبيض يحمي السرب أن يفزعا
وبذلك جرت عادات أهل الأعصار ?سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً?[الأحزاب:62] ?وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً?[فاطر:43].
وأما ما ذكره صاحب الكتاب - أيده الله - من مخافة اقتداء الضلال، فلو ترك العلماء ما يقضي به العلم مخافة إنكار الجهال أو تقبيحهم، أو اقتداء بهم لضاعت السنن، واستقبح الحسن، والعلم حاكم على الجهل، وليس الجهل بحاكم على العلم.
وأما (الغز) وتركهم لأهل (براقش) فإنما فعلوا ذلك لما جرى بأسباهم في ذمار فخلينا سبيلها، ونسائهم في (صنعاء) فكذلك، ونسائهم في (المهجم)؛ وإلا فقد أخذوا نساء (مذحج) لما طلعوا بلادها، وصاح صائح سلطانهم: بأن من أرادت الخروج فإنها في ذمة السلطان؛ وهذا أظهر من أن يخفى أو يمكن إنكاره، فما قرعهم من ذلك إلا ظهور دولة الحق.(1/89)


وأما أحكام الدين فلا بد من إجرائها على المستحقين، ولو تركنا السبي خوف اقتدائهم في ذلك فلنترك أخذ الحقوق لمثل ذلك، فهذا لا وجه له لكن ما فعلناه فهو حق فلنا أن نفعله، وما فعلوه فهو ظلم [وليس لهم فعله وسواء كان فعلهم أخف وأشق فهو ظلم] وعدوان، وسواء كان فعلنا أغلظ أو أشق فهو طاعة وإيمان، ولو ترك الدين لأجل استبشاع المستبشعين لما ظهر دين رب العالمين، فإنه في ابتدائه أنكره جميع العالمين، وعنّفوا لأجله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: ?إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ?[هود:72]، و?إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ?[يونس:76]، و?مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ?[المؤمنون:24]، فلم يمنعه ذلك من إظهاره وإمضائه حتى رجعوا إليه، وعكفوا بغير اختيارهم عليه؛ فإذا قد تقررت هذه الجملة فلنبدأ بذكر الردة وأحكامها على وجه الاختصار لضيق الوقت، وتراكم الأشغال، وظننا أن السائل ممن تغنيه الإشارة الدالة على ما إذا طلبه وجده متمكنا إن شاء الله تعالى.(1/90)


[ الردة وأحكامها ]
اعلم - أيدك الله تعالى بتوفيقه ولا أخلاك من تسديده - أن الردة في الأصل: هي الرجوع، ولا فرق في اللغة بين قولك: ارتددت أو قولك: رجعت، ثم صارت في الشرع الشريف تفيد رجوعاً مخصوصاً، وهو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، فإذا سمع أهل الشرع قول القائل: ارتد فلان سبق إلى أفهامهم أنه رجع من الإسلام إلى الكفر، وذلك معلوم في كتب الفقه، فهذا معنى الردة جملة فلنذكر ما يقع به الارتداد .
اعلم أن الردة على ثلاثة أوجه: إما بالرجوع عن جملة الإسلام إلى ملة من ملل الكفر أي ملة كانت فهذه ردة بلا خلاف.
وإما الزيادة في الدين ما ليس فيه، فهذه ردة بلا خلاف كما فعله بنو حنيفة فإنها ارتدت عن الإسلام وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللهً وأن ما جاء به حق من عند الله لا شك فيه، وزادوا بأن مسيلمة قد أُشرِك في الأمر، وما أخلوا بشيء من الإسلام الذي تقرر من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أفنتهم سيوف الحق وسبيت ذراريهم.(1/91)

18 / 92
ع
En
A+
A-