ولما ظهر ابن مهدي في تهامة وأنكر المنكرات الظاهرة على الحبشة، وقتل النساء والأطفال وأمر بالصلاة والصيام والتسبيح، وسميت أصحابه المهللة -لكثرة الذكر- وقام في وجهه الأمير قاسم بن غانم، وكان متديناً احتاج في حربه إلى الولاية والفتوى فولاّه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام واتفق هو والقاضي شمس الدين على فتواه بجواز قتل مقاتلة عرب تهامة وسبى ذراريهم، فأغار إلى وادي عين وسبي وقتل، وكذلك إلى المهجم وقتل وسبى وراحت السبايا إلى الشام ووطئهن المسلمون من الشرف والموال بحكم السبا، ومنهم اليوم كثير أحياء ممن شاهد الفعل وعلم الفتوى، ولصحة الرسالة التي تضمنت الفتوى كنا نعلمها في سناع وذلك لقرب العهد معلوم، وأفتوا بأن دارهم دار حرب، وصرحوا بذلك وصوبنا ما قالوا وما أفتوا به؛ لأنه الحق الذي نعلمه ويعلمه العلماء، ولقد أفتى عليه السلام في المطرفية الكفرة بهذه الفتوى، وصرح بذلك في رسالة سماها: (الواضحة الصادقة في بيان ارتداد الفرقة المارقة) وذكر فيها أن دارهم دار حرب، وذكر في كتاب (العمدة) في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة) وهو كتاب موجود عندهم فيما نظن في الناحية، وهو اليوم في اليمن نسخ كثيرة بعضها بخط الإمام عليه السلام، وأصل كتاب (العمدة) رسالة الإمام عليه السلام وشرح الرسالة من القاضي شمس الدين أيده الله تعالى، فاجتمع الإمام والعالم وهما قدوة العصر وبعده، ولو لم نقف على ذلك منهما لعلمنا صحة ما علمنا، وقلنا بما قلنا، لكون أصوله عندنا معلومة من فعل السلف رضوان الله عليهم أجمعين ولكن ذلك زيادة بيان وصقل برهان، وتصفية أذهان، وتقوية إيمان .
قال في فصل في آخر كتاب (العمدة) نذكره بغير زيادة ولا نقصان وهو مسموع من الإمام عليه السلام والعالم رضي الله عنه بل معلوم ضرورة بتواتر النقل.(1/82)
قال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام فأما سائر أهل البيت عليهم السلام ومن يعتزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام نسباً ومذهباً فإنه مخالف لهؤلاء المطرفية الطبعية الذين لبسوا أقوالهم على الناس، وأوهموهم أنهم من جملة الإسلام، بل أوهموا الخلق أنهم متبعون لأهل البيت عليهم السلام ، واعتزلوا إلى شعاب سموها هجراً، وحكموا فيها بغير ما أنزل الله؛ فأولئك هم الكافرون، وظنوا أنهم تميزوا بها عن بلاد العوام، ولم يشعروا أنهم أخرجوها من جملة الإسلام؛ فإن الصحيح من مذاهب أهل البيت عليهم السلام أن دار الكفر وهي دار الحرب التي يحكم على ساكنها بحكم الكفار من حرمة المناكحة، والذبيحة، وتنجيس الرطوبة، وقطع موارثة المسلمين، والمنع من الدفن في مقابر الإسلام، وإباحة دماء أهلها، والغزو لها، وحل اغتنام أموالها، وحرمة السكنى فيها، وغير ذلك من أحكام دار الحرب.
فأقول: إنما أراد السبي ولم يصرح بلفظه وإلا فما بقي من حكم دار الحرب لم يصرح به سواه، بل لو قال: هي دار حرب فاقتصر، لدخل جميع أحكامها تحت هذه اللفظة، وإنما الأئمة لا يقولون ولا يفعلون إلا ما قدروا على إظهاره، وتمكنوا منه؛ لأنه تكليف والتكليف لا يقع إلا بالممكن فلنرجع إلى الرسالة.
قال عليه السلام: ودار الحرب هي القرية أو الناحية التي يتمسك فيها أهلها بخصلة من خصال الكفر، ولا يمكنون أحداً من السكنى فيها إلا بأن يظهر التمسك بما يدينون به من ذلك، وأن يكون ممن يظهر شيئاً من ذلك على ذمة أو جوار، فمتى كانت الناحية أو القرية بهذا الوصف كانت دار حرب. هذا هو الصحيح والمقرر من مذاهب العترة الطاهرة.(1/83)
قال عليه السلام: وإنما قلنا ذلك لما علم من حال مكة فإنها كانت من قبل الفتح دار حرب؛ وإنما كانت كذلك لاختصاصها بما ذكرناه من أن أهلها كانوا مظهرين للكفر بحيث لا يمكنون أحداً من السكنى فيها إلا بأن يظهره، أو يكون على ذمة منهم أو جوار، فكانت لأجل ذلك دار حرب وهذا بعينه حال هذه الهجرة التي غلبت عليها هؤلاء المطرفية، فإنهم قد أظهروا فيها من خصال الكفر ما قدمنا ذكره، حتى صاروا لا يمكنون أحدا من السكنى فيها معهم إلا بأن يكون مطابقا لهم عليها أو يكون متظاهراً لموافقتهم، وإن أبطن خلاف ما هم عليه لم يستطع أن يظهره لا بذمة ولا بغير ذمة؛ فإن لم يزد حال هذه الهجرة التي غلبوا عليها (كوقش) وما جرى مجراها على مكة لم ينقص عنها، وفي ذلك لحوق أماكنهم هذه بدار الحرب، ولزوم ما ذكرناه عند من نظر بعين البصيرة لأن الإمام عليه السلام والعالم رضي الله عنه ذكرا ما قدمنا، وحكينا أن ذلك مذهب العترة الطاهرة عليهم أفضل السلام ورأيهم ولا شك عندنا في ذلك.(1/84)
[ موقف القاسمية والهادوية ]
وأما حكايتنا عن القاسم والهادي والناصر عليهم السلام : بأن دار المجبرة والمشبهة دار حرب فهي من أجلى الحكايات، وأوضح الروايات، وذلك أن رواتها أئمة وعلماء لا يمكن حصرهم في رسالتنا هذه، وإنما نذكرهم جملة وذلك أن الجيل (ناصرية) إلا القليل، وسهول الديلم (قاسمية) إلا القليل، وجبال الديلم (يحيوية) إلا القليل، ولا يعلم من هؤلاء خلاف على اختلاف أغراضهم وهم ألوف لا ينحصر أعدادها إلا لخالقها في جواز غزو المجبرة والمشبهة والباطنية وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، ويروون ذلك عن الأئمة الثلاثة سلام الله عليهم أجمعين ومذاهب الأئمة عليهم السلام في الفتاوى ما صحت لنا إلا عن رواية المذكورين، وهم علماء أهل ضبط وتفتيش وتوثيق في الرواية، ويختلفون في أشياء كثيرة، ولا يختلفون أن هذا رأي الأئمة الثلاثة عليهم السلام في المجبرة القدرية، والمشبهة الجبرية، ويغزوهم ليلا ونهارا، ويختطفون ذراريهم سرا وجهارا، ويبيعونهم في أسواق المسلمين ظاهراً، ويشتريهم الصالحون؛ وما فعلوا ذلك إلا بفتوى علمائهم وأئمتهم وسائرهم، ونحن عالمون لذلك منهم فيما مضى وازددناه في هذه المدة علماً بذلك ممن وصلنا منهم من الصالحين، ولم تجر طرائق أهل العلم بأن يتحكم السائل في الدليل ويقول: اجعله موضع كذا وكذا، بل فيه أن يكون صحيحاً موصلاً إلى ما يوصل إليه مثله، إن كان في الاعتقاد أن يوصل إلى العلم، وإن كان في الأعمال الشرعيات أوصل إلى غالب الظن، وصح به العمل دينا سماويا وحكماً مرضيا.(1/85)
وأما قول القائل: إن ترك السبي أولى للعاقبة وإن صح جوازه لئلا يقتدي به أهل الضلال ويجعلونه أصلا، فأكثر الظلمة ما تركوه إلا لاستشناعه من الغير كيوم (براقش) وسواه؛ فهذا أيدك الله تعالى خارج من هذا الباب في السؤال والجواب، فلا بد من الكلام فيه إنما هذه مشورة ورأي وليس إذا رأى غير الإمام رأيا وإن كان صالحا وجب على الإمام الرجوع إليه، بل على الإمام أن يعمل برأيه وما يؤديه إليه نظره، وإن خالف رأي كثير من أصحابه، وقد تقرر في علوم الأئمة من خصال الإمام التي يختص بها أن يكون شديد الغضب على أعداء الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإذا كان ذلك كذلك فبماذا يشتد غضب الإمام إلا بإجراء أحكام الله، والانتقام لله تعالى ولرسولهً منهم، ولا تمنعه من ذلك لومة لائم، ولا شتم شاتم، وأحكام الله تعالى فيهم سبي النساء وقتل المقاتلة، ولو كان الإسلام ضعيفا لكان الإمساك أصوب إلا أنه قد قوي والحمد لله أن سلم من تضعيف أهله له، ومن كان يقدر على إنفاذ هذه الأحكام التي خلعت قلوب أعداء الله من صدورهم، وزلزلت أقدامهم، وحملت أكثرهم على إنكار مذهبه، والتأدب بغير أدبه.
تنبئك البيض الرقاق والأسل وطعن أبناء النبي في الوهل
فبذلك عزَّ الإسلام، وذلَّ الجرم والإجرام.(1/86)