الكلام في ذلك: إن القول ما قلنا لمن تأمل التعليل، لأن قوله: إن الدار لا تكون دار الكفر إلا على صفة دار الكفر الأصلي مستقيم على تعليلنا وهو: إن دار الكفر الأصلي تظهر فيها كلمة الكفر ولأهلها شوكة تمنعهم ممن أراد إجراء أحكام الكافرين عليهم، فذلك تكون دارهم دار حرب، وهذا قولنا بغير زيادة ولا نقصان، وكل دار لا تكون صفتها صفة دار الكفر الأصلي، فإنها لا تكون دار حرب؛ لأن صفة دار الكفر الأصلي هي التي تظهر فيها كلمة الكفر بحيث لا يخشى قائلها من المسلمين تبعة ولا يفتقر إلى تستر بنفاق، وتكون له شوكة يمنع نفسه بها، ومن كان على غير هذه الصفة فلا يكون حكم داره حكم دار الحرب فهذا نفاق.
فأما قوله: فكيف يكون دار من أقر بالجملة دار حرب، وداره مباينة لدار الكفر الأصلي مع إظهار الشهادتين، والاعتراف بأن دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق وما سواه الباطل.
الكلام في ذلك : إن المقر بجملة الإسلام، والمعترف بأن دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق وما سواه الباطل هذا مسلم على الحقيقة، فكيف تكون داره دار حرب، وهذا مستقيم لأن دار الكفر الأصلي هي التي يظهر فيها الكفر بغير ذمة ولا جوار، وهذا حكم دور المجبرة، والمطرفية، والمشبهة، والباطنية، والمرجئة، والنابتة، ومن جانسها من أهل مقالات الكفر الذين ادعوا بقاءهم على الإسلام؛ فإنهم لا يحاشون في إظهار كفرهم أحدا، بل لا يظهر عندهم دين الإسلام على الحقيقة إلا بذمة وجوار، وكفرهم ظاهر بحيث لا محاشاة. فهل بقي بينها وبين دار الكفر الأصلي فرق؟! تأمل ذلك موفقاً. ولا يقدر المسلمون ينطقون عندهم بحدوث القرآن، ونفي المعاصي عن الرحمن، ونفي القدماء الذين جعلوها مع الله تعالى فسموها صفات؛ فأثبتوا أكثر من قديم واحد، فما الكفر عند أهل التحصيل إلا هذا.(1/77)
[ موقف الأئمة من المجبرة والمشبهة ]
وأما الحكاية عن القاسم والهادي والناصر عليهم السلام في اعتقادات القوم فلا بد من ذكرها.
وأما ما ذكر من استظهار الهادي عليه السلام على المجبرة والمشبهة فلم يسب أحداً ولا ذكر في سيرته، فأنا ذاكرٌ في ذلك برهاناً شافياً.
فأما سيرته عليه السلام فما في أيدينا منها جزءاً من عشرين جزؤً أوله أيام ووقعات معلومة. منها جملة ما ذكر في سيرته، منها حروبه مع القرامطة نيف وسبعون وقعة ما ذكر منها في سيرته عليه السلام وقعة واحدة، وبعض حروب بني الحارث؛ ولما نزل إلى بلاد المجبرة في الجيش كان قد تقدم إظهارهم لطاعته ملوكهم الحكميون ورعاياهم، فأي سبي والحال هذه.
ولما غدروا فيه عليه السلام كان نهاية أمر القتال عمن بقي من عسكره، والتخلص بأنفسهم ونفسه، فأي موضع سبي هذا وأكثر قصصهم ساقطة عن سيره عليه السلام.(1/78)
وأما سائر المغارب فلم يتحقق له عليه السلام فيها سلطان ولا حروب، وكذلك الناصر عليه السلام استظهر غاية الاستظهار ولم يُذكَر في سيرته جزءٌ من أجزاء كثيرة من حوادث حروبه عليه السلام، بل هي ساقطة ذاهبة، لأنه استولى على اليمن جملة، ودانت له ملوكه فلم يبق إلى السبي طريق، وما ذكر من تفصيل هذه الجملة في سيرة الناصر عليه السلام كلمة واحدة، فأما يوم نغاش فإنما كان اللقاء بين جيشين مجردين لا حريم معهما ولا نساء ولا قرى، فلما نصر الله الحق قتلوا مقبلين ومدبرين، وأجهز على جرحاهم فلم يكن ذلك موضع سبي على هذه الصورة، ولأن السبي ليس بواجب على الأئمة، بل لهم أن يسبوا ولهم أن يتركوا، وإنما كان يتحقق القول وتلزم الحجة على المقلد أنه لو وجد الأئمة عليهم السلام [قالوا:] إن الفرق المرتدة المدعية للإسلام متى كانت لها شوكة فلا سبي عليها، ولا يكون حكم دارها دار الكفر، فلو وجد ذلك لصح به التعلق وكان القول بغيره خلاف واقع بين الأئمة، وكان لا يستنكر وكنا نطلب ممن قال بقولهم البرهان على قوله، ولا نخطيه ولا نضلله ما لم يتضح لنا خلافه للأمة والأئمة عليهم السلام وهذا بعيد حصوله جداً والأحوال المجملة، وقد علمنا أن حرمة الأنبياء عليهم السلام متشابهة وإن كان لمحمدً فضل على الجميع، فمخالفهم كافر كمخالفه، ومتابعهم مؤمن كمتابعه، ولهم من الوعد وعليهم من الوعيد مثلما لأمته. فهل يتوسع لنا أن نقول بأنا نستعظم أن نطلق على من يشهد أن لا إله إلا الله وأن موسى وعيسى نبيا الله، وأن ما جاءا به حق من عند الله، وأن دينهم دين الله ولم يخالف إلا في جحدان نبوة رسول اللهً أن تكون داره دار حرب [فلئن لم نسمع هذا فما الاحتراز من إثبات دار حرب] ما هذا بأبعد من هذا؛ لأن المشبه ناف للصانع تعالى، وهو كعابد الوثن لأن ربه الذي اعتقد إلهيته بزعمه جسم -تعالى الله عن قوله- فهو ناف للباري جل وعلا لفظاً ومعنى، ونفيه في الجرم والعظم أكبر من(1/79)
نفي نبوة محمدً وكذلك المجبر المضيف القبائح إلى الله تعالى، والمخازي، وتكذيب الأنبياء عليهم السلام وقتلهم، يكون في الجرم عقلاً وشرعاً أقبح من نفي نبوة محمدً، بل أضافوا نفي نبوته إلى الله تعالى، ونفوها عن المكذبين الكافرين من خلقه. فتأمل هذا النكير موفقاً إن شاء الله تعالى، لأن المتقرر من أصول المجبرة الذي لا يختلفون فيه وإن اختلفوا في غيره أن كل حادث في العالم فهو فعله تعالى وخلقه واختراعه لا فاعل له سواه، ولا محدث إلا إياه. والأشعرية يرجعون إلى مذهب الجهمية ضرورة، ويزيدون عليهم في الكفر أيضا، وإنما يستعظم تكفيرهم الأنس بخلافه وأن أحكام الأئمة عليهم السلام لم تجر بمثله، وقد بينا لك أنهم لم يستظهروا استظهاراً عاماً فتنفذ أحكامهم، فقد قال علي عليه السلام: لو ثني لي الوساد لقد غيرت أشياء.
ولقد احتج من ينصر المذاهب المخالفة للشيعة بأن علياًّ عليه السلام لو كان لا يرى بإمامة أبي بكر وعمر لنقض أحكامهما في فدك وغيره.
قلنا: أما في غيره فليس له أن ينقض إلا ما خالف الكتاب والسنة وأحكامهما في الشرائع لم يعلم خروج شيء منها من هذا، وأما أمر فدك فهو له ولولديه وهما معصومان لا يخالفان المعصوم، وللإنسان ترك حقه لغرض من الأغراض، وللإمام أن يترك ما يجوز له من السبي وغيره، وقد فعل ذلك رسول اللهً من سبي أو طاس، وسبي بني المصطلق، وغيرهم ما فعل، وترك سبي قريش يوم الفتح وهو له طلق حلال، وسماهم الطلقاء - معناه العتقاء من الرق -.(1/80)
[ موقف الإمام أحمد بن سليمان ]
وأما الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام ودخوله زبيد فإنما كان باستدعاء الحبشة له مستنصرين به عليه السلام على ابن مهدي وأطاعوه طاعة وامتثلوا أوامره، ولهذا أمرهم بقتل ملكهم فساعدوه، وامتثلوا أمره، وملك عليهم سواه، فسمعوا له وأطاعوه فلم يبق للسبي والحال هذه طريق.
وأما صنعاء فإنما دخلها بالحجاز والكل جند الصليحي، وطلعهم مع أصحابهم وكان سلامة أهل درب صنعاء باجتهادهم وعنايتهم كما فعل ابن أبي سلول في بني قينقاع واستيهابهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضى والكره؛ فكا ن لا يتمكن من السبي، ولو قدر عليه لفعله -إن شاء الله تعالى- إلا أن يتركه لغرض فهو غير متهم في النظر سلام الله عليه وآله وله أن يفعل وأن لا يفعل لا حرج في واحد من الأمرين؛ لأن السبي ليس مما يجب بل الخيار إلى الإمام، وقد أحدث في تلك الحال سبيت [منهن بعد الخليفة] إلى بلاد زبيد وسواها فلم ينكر ذلك، ولا ظهر ما يدل على كراهته، وإن كان لم يفش ولا يشع.(1/81)