[ دار الحرب وأحكامها ]
فأما [نحن فعندنا] أن دار الحرب: كل أرض ظهرت فيها خصلة أو خصال من الكفر المعلوم بالأدلة، ولا يفتقر مظهرها إلى ذمة من المسلمين ولا جوار، وسواء كانت أرض مكة منزل البعثة أو المدينة دار الهجرة حماهما الله من الكفر وأهله، أو قسطنطينية ولا فرق في ذلك، إن عندنا أن مكة حرسها الله تعالى قبل الفتح دار حرب، وكذلك المدينة حرسها الله قبل الهجرة فتأمل ذلك تجده كما قلنا.
فإذا لا تأثير للأرض في إيجاب حكم أونفيه، ويبعد أن يكون من الأمة بل الأئمة عليهم السلام في هذا اختلاف .
ولاشك أن أهل دار الحرب إذا أسلموا خلي سبيلهم، وإن كفروا أجريت أحكام الكفر عليهم، وارتداد المرتدين يكون بإظهار شيء من الكفر بحيث لا تحاشي، ولا كفر أكبر من [كفر] هذه الفرق المخالفة لنا في مذاهبنا المتعلقة بأصول الدين كمن يضيف أفعال العباد إلى الله تعالى.
وبهذا دانت المجبرة والمطرفية أقماهم الله تعالى، أو ينفي أفعال الله عن الله. وبهذا اختصت المطرفية وأضافته إلى ما سبق مما اشتركت فيه هي والمجبرة، وما جانس هذا من التشبيه والقدر والإرجاء والإجبار، وما جرى مجرى ذلك، ولا نعلم تكفير الأئمة عليهم السلام لأهل هذه المقالات إلا من كتب أصول الدين؛ لأن كتب الشرع إنما تتضمن الفتاوى الواقعة والمقدرة، ولا يمكن أن ندعي أن المصنف قد أتى على جميع ذلك.
وذكر عنه عليه السلام أن رجلاً هو وامرأته لو لحق بدار الحرب فولد له أولاد وأولاد أولاد وظفر المسلمون بهم، فإن أسلموا قبل منهم وخلي سبيلهم وهم أحرار، وإن أبوا قتل من كان مدركاً كافراً، والصبيان يجرون على الإسلام، ولا يترك رجل منهم ولا امرأة على الكفر. ذكر ذلك في سيره.(1/72)
والكلام في هذه المسألة على نحو الكلام في الأولى إلا أنه عليه السلام نفى حكم الشرك عن رجل وامرأته، فأجرى عليهما حكم المرتد في دار الإسلام، وجعل الردة ملة منفردة من ملل الكفر فلها حكم يخصها، بدليل أنه قال في الأولى: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم؛ وحكم في الرجل وامرأته بخلاف ذلك لما نذكره فيما بعد.
وعندنا يكفر المسلم المحقق باستحالة السكنى في دار الحرب؛ لأن المعلوم من دين النبيً خلافه، لأن عندنا إن حكم من اختار سكنى دار الحرب على دار الإسلام يخرجه ذلك عن الإسلام ويكفر بمجرد ذلك ولا تبقى له حرمة الإسلام، ولو كان ملتزما لجميع خصال الإسلام إلا هذه، لأن المعلوم من دين النبيً تحريم مساكنة القوم إلا على من لم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلا فحكمه والحال هذه حكم المسلمين، وعند ظهور قدرة المسلمين عليهم حرمتهم باقية متى كانت الصورة ما ذكرنا، ونرى أنه يجري عليه حكم الكفار وعلى جميع أولاده وأولاد أولاده بلا فصل ولا فرق، وعمدتنا قوله تعالى: ?أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ?[القمر:43] فجعل حكم كفر الكافرين واحداً، وهو عليه السلام فصل حكمه عن حكم أهل دار الحرب، وهذا بناه على أصل تنويع الكفر أنواعاً فجعل الردة نوعاً، وجعل الحرب القليل في جنب الكفار التي انحاز إلى ملتهم، وجعله لكونه مفرداً لا شوكة له، بدليل: أنه في المسألة الأولى أجرى المنتقلين وهم كثرة مجرى الحربيين في سبي الذرية؛ ونحن نعتبر الشوكة أيضا ولكنا نجعل حكم المتنقل إلى القوم حكمهم، سواءً كان كافراً أي كفر كان فحكمه حكمهم، وشوكته شوكتهم، ونجعل الحكم للأعم الأكثر كما في نظائره من الأحكام الشرعية؛ فإذا تميزت الدور وتنوعت الأحكام وتحت هذه الجملة علم وسيع لو وقع لتفصيله تمكن، وفيه إشارة كافية، لمن له معرفة وافية، فكانت ردة الرجل وامرأته عنده عليه السلام ردة من يرتد من المسلمين سواء سواء؛ لأن(1/73)
المسلمين ملة واحدة، وهو يستضعف في جنبهم. وكذلك حاله مع الكفار الذين هرب إليهم هو مستضعف في جنبهم فبقي الحكم الأول كأنه لم يفارق المسلمين لعدم الشوكة التي تخصه، فأما على تقدير حصول الشوكة فبعيد على التحقيق أن يكون في المسألة خلاف.
[و]حكي عن السيد أبي طالب عليه السلام أنه قال: وكلام يحيى عليه السلام يدل على أن المرتد إذا لحق بدار الحرب وظفر المسلمون بالدار ولم يسلم، قتل ولم يسترق، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في المرتدة إذا ظفر بها بدار الحرب فعند أبي حنيفة أنها تسبى، وعند الشافعي أنها تقتل.
قال أيده الله: وكذا يجب على أصل يحيى:
الكلام على هذا: أنه تأييد لما تقدم، ودليل على أنهم عليهم السلام جعلوا الكفر مللاً، وهذا من أصولنا فجعل المرتد ملة، والكافر والنصراني والمجوسي واليهودي ملتان، كانت الشوكة ملة ملة فجعلوا المرتد المنفرد إذا انظم إلى غيره بحيث لا شوكة له فإن الحكم فيهم أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا، فإن كانوا من العرب لم يقبل منهم إلا السيف، وإن كانوا من غير العرب فالإسلام والجزية، وكذلك الخلاف في المرتدة أنها تسبى عند أبي حنيفة، وتقتل عند الشافعية كالخلاف في المرتد في دار الإسلام بحيث تجري عليها الأحكام بلا امتناع، بخلاف الحربية فإنها لا تقبل قولاً واحداً. فتأمل ذلك تجده كما قلناه بحيث لا اختلاف في ذلك، ولا خلاف في هذه إلا كما ذكرنا لك في جعل المرتد المنفرد والمستضعف ملة قائمة بنفسها. فأما حصول الشوكة في المرتد بأي وجه من وجوه الكفر فيبعد أن يكون في المسألة خلاف بين الأئمة عليهم السلام والأمة، ولولا ذلك لما أجمع الصحابة على خلافه، ولا يعلم بينهم خلاف على ما يأتي تبيانه تنبيها على ما وضعناه في الرسالة الهادية إذ لا يمكن استيفاء ذلك هاهنا، ولا وجه لإعادته للغنى بما قد تقرر ووقع.(1/74)
قال أيَّده الله: وذكر الشيخ علي خليل أن المؤيد بالله عليه السلام قال في الزيادات: الأقرب عندي أن كل موضع تظهر فيه الشهادتان، وتقام فيه الصلاة فلا يجوز أن يكون ذلك الموضع دار كفر؛ كما ذهبت إليه الحنفية لأنهم قالوا: لو أن أهل دار الحرب دخلوا دار الإسلام وتحصنوا في حصن، فالمعلوم أن ذلك لا يصير من دار الحرب فيجب أن يكون الموضع متاخما لدار الكفر متصلاً بها كما ذهبت إليه المعتزلة، والمتاخم هو أن يكون انتهاء حده إلى دار الحرب.
والكلام في هذا: إنه يبعد أن يكون الموضع الذي يظهر فيه الإسلام والشهادتان والصلاة دار كفر، ولا شك في ذلك؛ لأن الكلام لا يفيد ما لم يقل الأقرب عندي أن يكون كل موضع يظهر فيه تشبيه لله جل وعلا بخلقه، أو تجويره في حكمه، أو إضافة القبائح إليه، أو الإلحاد في أسمائه، أو نفي شيء من أفعاله عنه، أو إضافة أفعال خلقه إليه، أو تكذيبه في خبره، أو تجويز إخلاف وعده ووعيده، أو إنكار شيء مما علم ضرورة من دين نبيهً لا يجوز أن تسمى دار كفر.
فأما إذا ذكر صفات الإسلام وشرائعه وقال: لا تكون دارهم دار كفر، فذلك الواجب، وأما تمثيله بما ذهب إليه الحنفية فتمثيل صحيح على أصولنا وأصولهم؛ لأن أهل دار الحرب إذا دخلوا دار الإسلام وتحصنوا في حصن، فالمعلوم أن ذلك لا يصير من دار الحرب. قال: فيجب أن يكون الموضع متاخماً لدار الكفر ومتصلاً بها كما ذهبت إليه المعتزلة؛ والمتاخم هو أن يكون انتهاء حده إلى دار الحرب.
الكلام في ذلك: إنهم إذا دخلوا دار الإسلام، وتحصنوا في حصن فيها فالحكم للإسلام؛ لأن الشوكة والسطوة لهم، والكفر محصور مقهور، وإنما امتنعوا بمنعة الحصن لا بشوكتهم ولا حديتهم، فلا شوكة لهم والحال هذه، وما لم يكن لهم شوكة فالحكم للإسلام على كل حال، ومتى كان متصلاً بدار الكفر والكفر عضده ومدده فله الشوكة به؛ فيكون والحال هذه دار الكفر، فالمثال لا تنبني عليه المسألة لمتأمله بعين البصيرة .(1/75)
فأما قوله: فاقتضى ذلك أنهم وإن كانوا قائلين بالتشبيه ومستوجبين للكفر بهذا القول، فإن الدار لا تكون دارا للكفر إلا لملاصقة دار الكفر الأصلي.
وهذا الكلام إن كان للمؤيد عليه السلام فالذي يتحقق منه أنه جعل ظهور جملة الإسلام مانعاً من إتيان حكم ما تخللها من نقض ذلك باعتقاد شيء من الكفر؛ لأن الحكم للأغلب .
وقول القائل: لا إله إلا الله قولاً ظاهراً، هو يتضمن نفي التشبيه؛ فمتى قال بالتشبيه زال حكم الظاهر على الاعتقاد النادر، فمتى اتصلت دارهم بدار الكفر كان حكمهم حكم الكفار، ودارهم حكمها حكم دار الحرب، فوقع الاتفاق في هذه الصورة؛ لأن الحكم الظاهر للأعم، فلو كان لهم حكم الإسلام لم يختلف لمصاقبة [دار] الكفر ولا مباينتها؛ لأن أهل الثغور من المسلمين متاخمين لأهل الكفر، وحكمهم للإسلام، وكذلك حكم دارهم بلا خلاف بين أهل الإسلام، ولولا ذلك لكانت دار الكفر دار الإسلام، ودار الإسلام دار كفر؛ فلما كفروا وكانت لهم شوكة بمصاقبة الكفار، وحكم دارهم حكم دار الحرب. فتأمل هذه النكتة تجد العلة ما ذهبنا إليه من أن الكفر والشوكة توجب أن تكون دارهم دار حرب، أي دار كانت، في أي جهة كانت.
فأما قوله: فاقتضى ذلك وإن كانوا قائلين بالتشبيه، ومستوجبين للكفر لهذا القول، فإن الدار لا تكون دار كفر إلا على صفة دار الكفر الأصلي .(1/76)