[ ردة تغلب ]
ولما ارتدت تغلب عليهم ربيعة بن بحيرة التغلبي فلقيهم خالد بن الوليد في النطيح والحصيد وهم في جمع غليظ فقاتلهم، فسبى وغنم وأصاب في السبي ابنة ربيعة بن بحيرة فبعث بالخمس إلى أبي بكر وهي فيه، فأخذها علي بن أبي طالب عليه السلام وهي أم عمر ورقية ابني علي بن أبي طالب عليه السلام وتلقب الصهباء، وتسمى أم حبيب بنت ربيعة بن بحير بن العبيد، وقيل: الهند بن علقمة بن الحارث بن عتبة، وفي نسخة عقبة بن سعد بن زهير بن خيثم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، وقيل: وقعت في سهمه. وقيل: اشتراها من السبي، وكانت كتب أبي بكر إلى أمراء الأجناد في حرب أهل الردة الذين ارتدوا بمنع الصدقة ما ذكره محمد بن جرير في كتابه قال: كتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية المخزومي وهو أخ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهما.
أما بعد … فإذا جاءكم كتابي هذا وقد ظفرتم بالقوم عنوة فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية، وإن نزلوا على حكمي فافعلوا فيهم بهذا الحكم، وإن جرى بينكم صلحٌ فعلى أن تخرجوهم من ديارهم وتكون للمسلمين، لأني أكره أن أقر قوماً فعلوا فعلهم في ديارهم ليعلموا أن قد أساءوا وليذوقوا وبال الذي أتوا.
فهذه أحكام شهدها المسلمون حقاً، وأجمعوا عليها، وإجماعهم حجة على جميع الأمم .
وإنما أرادت الفرقة الملعونة التلبيس على العوام وعلى جهال المسلمين ممن يدعي العلم ولا نصيب له فيه، ولا له في أهل بيت النبوة هوى فيرد الأمر إليهم فيعلموه ما جهل ويرشدوه فيما سأل.
فالذين حالهم هذه، لا علماء، ولا سألوا أهل العلم، هم الذين قال تعالى فيهم: ?الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا?[الكهف:104].(1/62)


[ ردة الهذيل ]
وفي حديث أهل الردة في أيام خالد أن الهذيل لما التجأ إلى الزميل بن عتاب بالموضع المعروف بالبشر في عسكر ضخم، فلما علم بهم خالد شنها غارة كأنه يبادر نهابا، فسبقت الخيل الخبر وجاءهم من ثلاثة مواضع فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا مثلها، وسبى وغنم فقسم في الناس فيئهم، وبعث بأخماس الغنم والسبي مع الصباح بن فلان المري، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري، وليلى بنت خالد وريحانة بنت الهذيل بن هبيرة؛ ولم يعلم من أحد إنكار السبي في أحد ممن كفر بالله تعالى، وكانت له شوكة وكفره بوجوه لا تنحصر هاهنا.(1/63)


[ بعض وجوه الكفر ]
منها: أن ينكر شيئاً مما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة، ولو كان شيئاً واحداً من ألوف كثيرة قد اعترف بجميعها إلا ذلك الشيء، أو ينفي عن الله تعالى فعلاً واحدا من أفعاله التي لا ينحصر أعدادها، أو يضيف إلى الله تعالى فعلاً واحداً من أفعال عباده.
وهذه الفرقة الملعونة أضافت إلى الله تعالى جميع أفعال المخلوقين، أما البهائم فقالوا: إنها مجبورة وفعل المجبور فعل جابره.
قلنا: وكيف يذم الباري تعالى فعله وهو يقول: ?إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ?[لقمان:19] وكيف يكون عضال الكلب وسفاد البهائم فعل رب العالمين المتعالي عن القبيح.
وأما أفعال المكلفين فقالوا: فعل العبد لا يعدوه ولا يوجد في غيره، وهو ضرب وانضراب فالضرب فعل العبد وهو حركة يده لا يتجاوزها، والانضراب هو انقطاع الجسم وهو فعل الله بما يجعله ينقطع، وناظروا على ذلك ولا خلاف بينهم فيه، أخزاهم الله وعجل انتقامهم، وعلى علتهم هذه في الأفعال تلزم حركات أيديهم، فإنه لولا جعلها الله تحترك لما احتركت [وكذلك سائر حواسهم].
فلهذا قلنا: إن أفعال [جميع] المخلوقين يضيفونها إليه سبحانه، ثم مع ذلك نفوا عن الله تعالى جميع الحوادث، وأضافوها إلى الإحالة والاستحالة، ومن قال منهم: فعل الله قال، بخلقه للأصول الموجبة لهذه الفروع بالإحالة، فذهبوا في ذلك فريقاً مما ذهبت إليه الفلاسفة، وإن كانت الفلاسفة أحصل منهم والكل من الفريقين كافر بإجماع علماء الأمة.(1/64)


[ إباحة الإمام للمطرفية ]
وكل دار أظهر فيها إنسان كلمة من الكفر، أو كلام لا يفتقر في إظهاره إلى ذمة ولا جوار من أحد من المسلمين فهي دار كفر، ومذهب هذه الفرقة الملعونة يظهروه في عوشات كفرها، ومكامن كيدها التي سموها هجراً، ولا يفتقر إلى ذمة ولا جوار، وإن كانت في ذمة أو جوار ممن يزعم إصابتها، ويعتقد صلاحها فهو كافر بذلك لكفرها، وممالأته، فكل جهاتهم دار حرب يحل فيها قتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وغزوهم كما تغزى ديار الحرب ليلاً أو نهاراً، وأخذهم سراً وجهاراً، والقعود لهم كل مرصد؛ وقد أبحناهم لمن اعتقد إمامتنا من المسلمين غيلة ومجاهرة، وغيباً وظاهرة، ومن جاءنا بأحد من ذراريهم اشتريناه بثمن مثله، وأجزنا أخذه بما يرضاه كما يفعل أئمة المسلمين بمن غزا ديار المشركين، ويجهز على جريحهم، ويقتل مدبرهم ومقبلهم، ويمثل بقتلاهم خلاف ما يفعل في الحربيين أصلاً؛ فإنه لا يمثل بهم، وقد نهانا رسول اللهً عن المثلة نحن نرويه في أخبار كثيرة إلا في المرتدين، فالردة كفر وتمرد، فلما جمعت النوعين غلظ فيها الحكم، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع أيدي العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام، وأخذوا إبل الصدقة، وقتلوا رعاتها، فلما ردهم علي بن أبي طالب عليه السلام أسارى قطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم بالنار، وأمر بهم فرمي بهم في الحرة حتى ماتوا.
وكذلك حرق علي عليه السلام زنادقة السواد وهم مظهرون الإسلام وقال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أضرمت ناري ودعوت قنبرا
وحرقهم بالنار حتى صاروا رماداً وهو سلام الله عليه الحليم الوقور.
روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أحب أن ينظر إلى نوح في حلمه، وإلى موسى في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب)) فلم يمنعه حلمه من تنكيل المتمردين على الله - عزَّ وجلَّ - المخالفين في الدين بعد إظهار التمسك به.(1/65)


وكذلك حرق أبو بكر الفجاءة السلمي ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وكتب إلى عماله: لا ينزل أحد من أهل الردة على حكم أحد منكم ولا حكمي إلا قتلتموه، وشردوا بهم من خلفهم، ولما ظفروا بالأربعة الملوك وأختهم الملكة المسماة (العمردة) مثلوا بهم أقبح المثل.
أما العمردة: فربطت بحبلين إلى جملين، وارد وصادر، وأخيفا، وطردا، وأوجعا، فشقاها .
وأما الأربعة: فربطوا في أرجلهم الحبال وركضوا بها الخيل حتى تقطعوا.
ومن أهل الردة في عبس وذبيان من قمطوهم بالحبال ورضحوهم بالحجارة.(1/66)

13 / 92
ع
En
A+
A-