ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتق قريشاً يوم الفتح وسماهم (الطلقاء) لملكهم المسلمون وسبوا ذراريهم، وعلى أن تسميتهم الطلقاء دلالة على الرق، والمسلمون ملكوا العباس رضي الله عنه يوم بدر بالأسر، وأطلقوه بالفداء، ومن كان من بني هاشم، وإنما هي تغليطات تجوز على أرباب الجهالات.(1/57)


[ عود إلى حديث أهل الردة والسبي في العرب ]
ثم لنرجع إلى حديث أهل الردة وأمر السبي، لأن ذكره المقصود في رسالتنا هذه لنفي جهالة الجهال، التي منعت من السبي بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمة، قد ذكرنا في صدر الرسالة ردة عمان على يد لقيط بن مالك الأزدي، وكان يقال له: ذو التاج، وكان يسمى في الجاهلية الجلندي، ولماّ غلب على عمان وغلب خنفر بن الجلندي وعبدها عليها وهزمها إلى الاجبال، أمدهما أبو بكر بحذيفة بن محصن العلقاني من حمير، وعرفجة بن هرثمة من الأزد، وقد كان قال: حذيفة لعمان، وعرفجة لمهرة، وأنتما متساندان، وكل واحد منكما أمير صاحبه في وجهة، فخرجا متساندين، وأمرهما أن يجدا السير إلى عمان، فإذا كانا منهما قريباً كاتبا خنفراً وعبداً وعملا برأيهما، وقد كان أبو بكر أيضاً كتب إلى شرحبيل بن حسنة أن يسير إلى عمان مدداً لحذيفة وعرفجة وقال: إن يلحق بكم عكرمة فهو على الناس، وهو وجهكم إلى مهرة وحضرموت واليمن، ولما بلغ لقيط مسيرهم إلى رخام في جانب عمان ونهض خنفر وعبد فعسكرا بأصحار، ووافى الناس عكرمة وتوافت جنود المسلمين إلى أصحار فاستبرؤوا من يليهم، وأصلحوا الجهات، ثم كاتبوا رؤساء أصحاب لقيط فاستجاب لهم طائفة، منهم: سيد بني جديد فانفضوا عن لقيط فنهدوا إليه وقد رقت جنوده، وإن كان في الدهم الأكثر فنهدوا إلى (دبى) وكان لقيط قد جمع القيالات وتركهم خلف الناس حفيظة لهم لئلا ينهزموا ويحافظوا، فاقتتل القوم قتالاً شديداً قلما سمع بمثله؛ فاستظهر لقيط على الناس، وكاد يستعلي وجعل يطعن في الزيادة، والمسلمون في النقصان على أن الحفيظة قائمة في المسلمين، والرايات قائمة إلا أن الخطب قد اشتد على المسلمين، وكثرت القتلى فيهم، وفشت الجرائح، وكاد أن يقع لأعداء الله الظفر، فبينما الناس فيما هم فيه إذ وردت أمداد المسلمين من بني ناجية عليهم الحارث بن راشد السامي ومن انضاف إليهم من القبائل: عبد(1/58)


القيس والشواذب فاستعلى المسلمون على المرتدين فقتلوهم قتلا ذريعاً بلغت القتلى عشرة آلاف قتيل سوى الشداد، وحويت الذراري والسبايا، وسارت الغنائم إلى القباض وقسمت، وأقررت من الأخماس ثمانمائة رأس، وأنفذت مع عرفجة وأقام حذيفة بعمان، وذلك رأي أبي بكر.
واستقرت الأمور وعاد الإسلام إلى أحسن عاداته، والغرض بذكره ما تعلق بالسبي في العرب بعد النبي ً.
فأردنا بيان ذلك بوجهه وفنونه وجهاته وأعداده ليكون غرضاً يقصده من أراد معرفة تلك الأحوال، وليعلم صحة ذلك من كانت له بسطة في علم الآثار؛ فأردنا أن نبين وقوع السبا في العرب بحيث لا يمكن أحد ممن يستحي من المباهتة من إنكاره، وإن ذلك ظاهر متيقن بمشهد أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله - وأصحابه، فهم الأئمة المعصومون: علي بن أبي طالب عليه السلام وولداه الحسن والحسين - عليهما السلام - فلم ينكروا ذلك، بل صوبوه وأخذ علي عليه السلام منهم، ووطئ بحكم الملك، وكذلك فعل فضلاء الصحابة بغير مناكرة منهم في ذلك؛ فكيف ينبغي لجهال أهل العصر إنكار وقوع السبا فيمن هو أقبح من أهل ذلك العصر أفعالاً وأشنع مقالاً.(1/59)


[ ردة المهرة ]
وأما ردة مهرة فإنها كانت على رئيس لهم يقال له: سحريب من بني سمخراه، وعلى المصبح أحد بني مجاب ومعه جل الجمع، وكان كل واحد منهما يريد أن يكون الآمر والمظفر بما أرادوا من علو الكفر على يديه، والله متم نوره ولو كره الكافرون، أحدهما كان (بجيروت) والآخر (بالنجد) فدعا عكرمة (سحريب) وكان في أقل الجمع فدعاه عكرمة إلى الرجوع إلى الدين والنزوع عن الكفر فأجابه بأول الدعاء، ودعى المصبح فاغتر بكثرة من اجتمع إليه، وقد ملأوا تلك القيعان والرحاب بأرض مهرة فأبى أشد الإباء، فناهدهم المسلمون للأشعث إلى عكرمة بأمان فأبلغه عكرمة المهاجر واستأمنه على نفسه، ونفر معه تسعة على أن يؤمنهم وأهليهم فأجابهم إلى ذلك على أن يفتحوا لهم الباب، ففتحوا الباب واقتحمه المسلمون فوفوا للتسعة المعينين وقتلوا جميع من فيه من ذكر حالم مدافعة، وصبراً، وجمعوا السبي ألف رأس غلام وجارية، فأنفذوا الخمس إلى أبي بكر، وقسموا الأربعة الأخماس في جيش المسلمين، فلما اطمأنت بالأشعث الدار بعد تمصير الكوفة والمدة الطويلة استأذن في فداء نسوة من نسوته، فكان يسير في الكوفة في القبائل وهو يسأل عن رباب وعقاب وغراب وكلب وذياب، فلما وقف على بني نهدٍ قال: ما مسألتك عن هؤلاء النفر؟ قال: إن نساءنا اختطفن يوم البحير، فأخذهن الذئاب، والعقبان، والغربان، والكلاب، والذئاب، فوجدوا غراباً في بني عطيف.(1/60)


فهل رأيت أيها السامع، أعجب ممن ينكر سبي أهل المصانع، الخبثاء من كل جانب، المرتدين بكل وجه يوجب الردة مع العلم بهذه الأحوال، والذي ينتهي إليه علمي أني أشهد أن كندة على هذه الصورة التي قدمنا أقرب إلى الله تعالى وإلى الإسلام والمسلمين، وأشرف نفوساً وأفعالاً من أهل المصانع ومن انضاف إليهم؛ فأين العقول السليمة، والأفكار الصحيحة؛ وإذا لم تجدد أحكام شرع محمدً فمن يجدده، ومن ذا الذي يطلع بهذا الشأن، ويوضح هذا البرهان ولو كان ما جهلته العامة من الأحكام، اطرحته الأئمة عليهم السلام ، لكانت رسوم الدين اليوم عافية، وقواعده -والعياذ بالله من ذلك- واهية، ولولم نستدل في حال الردة وجواز سبي المرتدين إلا بفعل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام لكان كافياً، وإن كان الإجماع آكد الدلالة، وتواتر الدلالة أنفى للريب من القلوب.(1/61)

12 / 92
ع
En
A+
A-