ولا ذي الخمار ولا قومه .... ولا أشعث العرب لولا النكد
ولا من عرانين من وائل .... يسوق البجيرة سوق البعد
وكنَّا أناساً على شبهةٍ .... نرى الغي من أمرنا كالرشد
ندين بما دان كذابنا .... فيا ليت والده لم يلد
تمنى النبوة في شركه .... وما قالها قبله من أحد
فلما أناخ بنا خالد .... جهدنا وأعذر من قد جهد
فصالحنا بعد جد القتال .... على ما أراد وما لم يرد
خرجنا إليه من أموالنا .... ونصف السبي ونصف العدد
وكل غريب له ذمة .... فقلدنا عارها في الأبد
وقوله: كل غريب -يريد غريب الذل من صفات النساء فقلدنا عار السبي- إلى آخر الدهر فهذا كما ترى من أقوالهم واعترافهم بما جرى عليهم من السبي يبين لذي البصيرة أنا اتبعنا وما ابتدعنا، وفيه تكذيب لمن يقول: إن أهل الشهادتين لا يقع فيهم السبا جهلاً منه بأصول العلم وفروعه، ومعقول البيان ومسموعه، ولقد علم أهل العلم أن من عجائب مسيلمة الكذاب أن مهر سجاح الكذابة الملعونة لما تزوجها صلاة العشاء الآخرة والفجر لها ولقومها، وكان هو وقومه غير تاركين لشيء من الصلوات حتى أخزاهم الله بسيوف الحق وأيدي المحقين، وهذا السبي بعد محمدً في أمته بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ فقد رأيت كيف قاسم المسلمون قتبان الطعان من ربيعة ونزار، أولادهم أخذوا بنتاً وتركوا بنتاً، وأخذوا ابناً وتركوا ابناً، ولولا الصلح أخذوا الجميع؛ لأن الذي حل به النصف يحل به النصف الآخر، وإنما لبست الفرقة الملعونة على العوام الجهَّال، وشوشت باسم الإسلام واسم الشهادتين، ولم تدرِ أن للإسلام رسوماً وحدوداً من تعداها خرج منه، وإن ادعى البقاء عليه لم يسالمه أهل المعرفة في ذلك، وأهل بيت النبيً لم يظهر لهم قدرة ولا اتساع مملكة لإجماع أكثر الأمة على عداوتهم وعنادهم ودفعهم عن حقهم، فلم يتمكنوا من إظهار الأحكام في قرن الردة، وإلا فهذا أقرب الأئمة عليهم السلام إلينا أحمد بن سليمان سلام الله على روحه الكريمة كتبه مشحونة شاهدة بما قلنا من كون المطرفية المرتدة حكمهم حكم أهل دار الحرب، وإنها لا تحل ذبائحهم، ولا مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا قبرهم في مقابر المسلمين، ولا رطوبتهم عند من يرى برأي الهادي عليه السلام.(1/51)
وقد ذكر ذلك في تصانيف عدة منها: كتاب (العمدة) وهاهو اليوم موجود بين أظهرنا يشهد بما قلنا.
ومن ذلك أيضاً ما كان من حديث بني ناجية وهم كانوا ينتسبون إلى سامة بن لؤي، وجاءوا إلى عمر ليلحقهم بقريش فكره ذلك، وجاءوا إلى عثمان فألحقهم بقريش وجعل لهم مثل أعطيات قريش.
ولما تولى الأمر علي عليه السلام جاءوا إليه فقال: لهم إن سامة بن لؤي لم يخلف إلا ابنة، فإن كنتم أولادها فأنتم بنو أختنا، وإن زعمتم أنكم أولاده من رجل خلفه، فلا حقيقة لذلك الحقوا بفصيلتكم التي تؤويكم، فطعنوا عليه وخبثوا وتربصوا، وكانت عيونه عليهم راصدة، فجاءه عينه في بعض الأيام فلما أقبل قال له علي عليه السلام: آمنوا فعطنوا، أم خبثوا فطعنوا. قال: يا أمير المؤمنين، بل طعنوا فغلبوا -وحكى له خبر القوم، فدعا معقل بن قيس الرياحي فبعثه في أثر القوم فلحقهم فحاربهم وقهرهم وسباهم، وجاء بهم إلى العراق فاعترضه مصقلة بن هبيرة فشراهم بخمسمائة ألف درهم؛ نقد بعضها وهرب ببعضها، فقال علي عليه السلام: قبح الله مصقلة فعل فعال الأحرار، وهرب هرب العبيد؛ أما إنه لو أقام أخذنا ميسوره وانتظرنا بماله وفوره، وجاءوا إلى علي عليه السلام فقالوا: ردهم إلى الرق. فقال: لا سبيل إلى ذلك قد عتقوا، وما لكم إلا مال صاحبكم، وقد قالت امرأة منهم:
سبانا معقل ولرب حي .... من الأحياء ضاحية سبينا
ولا قلنا بغير الله ربا .... ولا دنا المسيح ولا اعتدينا
وكان ظاهر القوم على الإسلام ورأسهم الخريت بن راشد، وعاب الناس على معقل سبيهم كما فعل أهل العصر فظنوا أن منع الصدقة ليس بكفر . فقال معقل بن قيس رحمه الله:
لعمري لئن عاب أهل العراق .... علي لسبيي بني ناجية
لأعيب من سبيهم كفرهم .... وكفى بسبيهم عالية
فقد قال قوم قسا معقل .... فقلت قلوبكم القاسية
وقلت سبيت على ردة .... على الحق والسنة الماضية(1/52)
فهذا فعل صاحب علي عليه السلام أيضاً، وأجازه علي عليه السلام وشهده من بقي من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره أحد منهم فلا وجه لإنكار ما وقع في عصرنا هذا إلا الجهل بالآثار، ومعاندة الأئمة الأخيار سلام الله عليهم، ولم يختلف أحد من أهل العلم في حديث بني ناجية وسبيهم، وبغضتهم لأهل البيت عليهم السلام باقية إلى الآن.
ذكر مصنف أخبار يحيى بن زيد عليه السلام أنه لما أخذ من دار أبي الحوس عمر بن داود الشيباني وحبس أدخل عليه وجوه أهل الضلالة لتبكيته، فكان فيمن دخل عليه بسرخس الحارث بن عبد الله بن الجسوس الجعدي فقال ليحيى: قد عرفت بلادنا، وإضلال العدو علينا، وأنا في نحورهم في أقصى تربة في الإسلام، وكان في نساء أنباط العراق لك ممكن لو أردت ذلك فلا تدخل بلادنا لتروم تفريق جماعتنا. فقال: -يعني يحيى- من هذا؟ قيل: الحارث بن عبد الله. قال: الجعدي؟ قال: نعم. قال: أما إن عداوتكم لنا أهل البيت قديمة. قال: ثم كلمه جهم بن مسعود الناجي بكلام غليظ. فقال يحيى: لا تلامون على بغضنا لأثر أبي الحسن فيكم -يريد عليه السلام سبي علي عليه السلام لبني ناجية- قال: وتكلم معرف بن سحرة الأزدي فقال: أما بلغك أن زوال جبل السر من زوال ملك لم ينقص أكله، ولم يأذن الله في زواله.
قال يحيى عليه السلام: فعسى أن يكون الله قد أذن بذلك، ولا خلاف بين أهل العلم فيما حكينا من سبي علي عليه السلام بني ناجية وقد وردت الآثار بفضل عتق الرقبة والرقاب من ولد إسماعيل، ونحن نروي ذلك وهم صميم العرب، فلولا أن الرق يصح فيهم لما ورد فيه الحديث، فلا معنى لإنكار سبي أهل الردة من العرب.
ولما وصل مصقلة إلى الشام ندم على فراق علي عليه السلام، وكتب إلى أهل العراق شعراً فقال:
يا راكب الأدما سلم خفها .... وغاربها حتى تصل أرض بابل
أتكنى إلى أهل العراق رسالة .... وخص بها أحياء بكر بن وائل
وعمّ بها عليا ربيعة أنني .... تركت علياَّ خير حاف وناعل
على غير ذنب غير تارك دينه .... ولا سامع فيه مقالة قائل
ولكنني كنت امرءاً من ثقاته .... أقدم في الشورى وأهل الوسائل
فأذنبت ذنباً لم يكن لمقيله .... حليم وقلت الليث لاشك آكلي
ولا طالب بالشام زيف معيشة .... وما الجوع في أرض العراق بآكلي(1/53)
والأدلة بحمد الله بذلك شاهدة متساندة، يعرفها من له أدنى بسطة في العلم، وجهل الجهال بصحة ما يعرفه أهل العلم لا يكون مانعاً من فعله لولا ذلك لعطلت الشرائع، فأكثرها لا تعرفه العوام ولا تدين به، وقد كانت جملة الدين - زاده الله شرفاً وجدة -مجهولة عند أكثر الخلق، فلم يمنع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إظهاره وإمضائه، والقتال عنه حتى كانوا يتعجبون منه كما حكى الله عنهم من قولهم: ?إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5]، ولولا ما أخذ الله على أهل العلم من تبيينه لما ألزمنا نفوسنا هذا البيان ولا اشتغلنا بهذا الشأن، ولكان ظهوره يغني عن المبالغة في كشفه ولكن أردنا ذلك ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ?[الأنفال:42]، ولجهلهم متى ذكر لهم هذا قالوا: فانظروا إلى كلام الأئمة والعلماء في أهل البغي والسيرة فيهم، ونسي الجهال أن أهل البغي لابد لهم من شرائط:
أحدها: أن يكونوا في الأصل مؤمنين كما قال تعالى: ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا?[الحجرات:9] فساوى بينهم في صفات الإيمان.
الثاني: أن يخرجوا على إمام حق.
والثالث: أن يدعوا أنهم أولى بالحق منه.
فأما من يعتقد خصلة أو خصلتين من الكفر فلا يليق به اسم البغي؛ وإنما هو كافر، فلو قالوا: انظروا إلى أحكام الكفار لأخبرناهم: ما هي، وربما قالوا: انظروا إلى قول الأئمة عليهم السلام والعلماء في المرتد، فإنه يستتاب ثلاثاً وإلا قتل وقسم ماله بين ورثته، وما حكمه إذا لحق بدار الحرب.
والأئمة عليهم السلام تكلموا في المرتد الذي تكون داره دار الإسلام ثم تظهر ردته، والأحكام جارية عليه؛ فأما لو كانت له شوكة بحيث يظهر كفره واعتقاده بغير ذمة من أحد المسلمين ولا جوار فإن موضع قدميه وداره تكون دار حرب، وإلا فليسألونا لنخبرهم - قطع الله دابرهم، وعجل النصر عليهم وصلى الله على النبي وآله -. وهذا رأينا فيهم لم نكتمه من أول وهلة ولا خفنا إذا ظهر مقت أهل المعرفة.
فأما إنكار الجهال فلا يعتد به العلماء وأهل المعرفة، وقد ذكرنا ذلك في الأشعار من قبل هذا فقلنا في الشعر الرأي:
فإن بدت شوكة منهم فسبيهم .... أحل من شرب ما يهمي من المطر(1/54)
[ القرابة مع الكفر لا تمنع السبي ]
وكتبنا إلى أشرافهم الذين اقتدوا بهم في الكفر وتابعوهم في الغي بأنكم إن تماديتم في مشايعة القوم، وأظهرنا الله عليكم إنا نسفك دماءكم، ونسبي ذراريكم وإن قربت أنسابكم منَّا، فإن أقرب الناس منَّا وأبعدهم في الحق سواء عندنا؛ فحفظوا الكتاب وأروه من يجوز عليه ناموسهم من العوام، فحمدنا الله تعالى على إظهار قولنا فيه، لأنه حكم نبوي يعتقده من اعتقد وجوب طاعتنا، قالوا: نسبي بنات الهادي. قلنا: نعم نسبيهنَّ لكفر أهلهنَّ، وحرمة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وهارون، النبوة أعظم من حرمة الهادي عليه السلام بالإمامة، فلما كفر أولاد هؤلاء الأنبياء عليهم السلام حل لنا سبي ذراريهم ونسائهم، وإبراهيم خليل الرحمن جدنا، والأنبياء الذين ذكرناهم وولده أعمامنا، وسنة الله لا تحول ولا تبدل، قال سبحانه: ?سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً?[الأحزاب:62] ?وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً?[فاطر:43] فتيقظ لما ذكرنا ذلك تجده كما قلنا.
وهذه قبائل العرب التي سبيت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثرهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ومن عنصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأولين والآخرين لأنها قبائل ربيعة ومضر ابني نزار بن معد بن عدنان، وإليه ينتهي رسول اللهً، وأقرب من ذلك بنو أسد تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وعبس وذبيان وسائر غطفان تلقاه في مضر بن نزار، وربيعة تلقاه إلى نزار بن معد، فلم تعصمهم قرابتهم من السبي لما كفروا بالله.(1/56)