خالطهم من المسلمين، وإذا قد تقررت هذه الجملة فلنرجع إلى ما كنا بصدده من ذكر الفرقة المرتدة وأحكام أهل الردة هذه (المصانع) هي قرارة كفرهم، وعوشة ردتهم، واستمرت بذلك الأعصار، ومضت عليه الدهور، وهرم فيه الأطفال، وتقرمت القرون من يوم نجوم كفرهم إلى الوقت الذي جرى فيه ظهور نفاقهم وبايعونا على التوبة والبراءة من الفرقة المرتدة؛ إلا من نفر منهم ممن أصر، وأقاموا على ذلك مدة تبدو منهم أمارات النفاق، ودلائل الكفر، ونحن نحملهم على ظاهر غير سليم إلى أن طال عليهم الأمد وقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون؛ فأظهروا الكفر ومنعوا الزكاة التي منعها بنص القرآن الكريم شرك قال تعالى: ?وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ?[فصلت:6، 7] ولا كفر أقبح من الشرك بالله، وظاهروا الشقي المشرقي وأعوانه من الفرقة المرتدة الملعونة المسماة بالمطرفية، وسلموا الأمر له في نفوسهم وبلادهم من طرق جمة، ووجوه كثيرة -كما قدمنا- فحاكمناهم إلى الله تعالى فقضى لنا عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية امتثالاً لحكم رب العالمين، واقتداءً بوصي النبي الأمين والصحابة الراشدين، ولابدنا نذكر من ذلك طرفا يدل على ما وراءه ليكون تذكرة للمستبصرين، وبرهانا للمقصرين، وعلى الله نتوكل وإياه أستعين.(1/46)


[ عودة إلى الردة ]
اعلم أيَّدك الله: أن العلامة كانت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام أو الردة الصدقة، فمن سلمها عدّ من المسلمين، ومن منعها لم يختلف الصحابة في ردته، ولا يسأل عن حاله بعد ذلك، وقد شهدت بذلك أشعارهم وآثارهم لمن كان يعرفها ممن يعتني بأمور الدين، ويفرق بين المسلمين والكافرين، وذلك أنه لما قبض الرسولً اجتمعت الوفود لعاشرة من موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة باذلين القيام بشرائط الإسلام وأنواعه، مستعفين من الزكاة، ونزلوا على كبار الصحابة متحرمين بهم ومستشفعين في نجاز ما سألوه، فاجتمع جماعة من الصحابة واشتوروا في ذات بينهم على قبول ما جاءوا به، وجاءوا إلى أبي بكر فقالوا له ما دار بينهم، وقالوا له: رأينا أن نساعدهم إلى ذلك حتى تبلغ ما تريد. فأبى ذلك أبو بكر أشد الإباء وقال -ما هو معلوم من قوله-: والله لو منعوني عناقاً أو قال: عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه. وأجَّل لهم يوماً وليلة فلما خاض الناس في القول أمر بالنداء بالصلاة جامعة، فلما قاموا قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله تعالى توكل لهذا الأمر فهو ناصر من لزمه، وخاذل من تركه، وإنه بلغني أن وفود العرب يعرضون الصلاة، ويأبون الزكاة، وإني لا أفرق ما جمع الله بينه، ألا وإنهم لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قبلت منهم، ألا وإن الذمة بريئة من رجل أجده من هذه الوفود بعد يومه وليلته بالمدينة -فوثبوا يتخطون رقاب الناس طائرين إلى عشائرهم، ما بقي منهم في المدينة واحد، وكانت الوفود من سليم، وأسد، وغطفان، وهوازن، وتميم، ومن صافهم.(1/47)


وقال أبو بكر لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون ليلاً تؤتون أو نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل ما أتوا به، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم فاستعدوا وأعدوا له.
فهل علمت - أيها السامع - أن أهل (المصانع) نقضوا مما كان عليه القوم كلمة واحدة، بل زادوا مع ذلك قطع الصلاة مع الزكاة إلا القليل، واعتقاد الكفر الذي قدمنا ذكره، وتولية الأمر من يعتقده، والموالاة له، وكان من قولهم: إن بلادنا لا تحتمل الزكاة في المجامع والمحافل، فلا يقول لهم أحد: اتقوا الله، وجاءوا إلى الصنو يحيى بن حمزة في محفل جامع فقالوا: إناَّ نريد منك بأن تعقد لنا بأن الإمام لا يطالبنا بالزكاة، ولا يذكر فيها كلمة واحدة. فقال لهم: لا أجترئ على ذلك؛ فكيف يجوز لمسلم يعتقد إسلامهم أو يعدهم من جملة المسلمين أو يخرجهم من أحكام المرتدين! نبئوني بعلم إن كنتم صادقين.(1/48)


ولما حاربهم خالد بن الوليد في (بزاخة) لم يقع سبي؛ لأن طليحة كان أمرهم بإنفاذ أموالهم ونسائهم وذراريهم إلى نواحي بلاد طيء، وأن يلقوا المسلمين متجردين في الجنود، ولما قتل الله منهم من قتل في بزاخة، وفض جمعهم بعد بلاء شديد لا يتعلق ذكره بما نحن بصدده نهد لبني تميم في المهاجرين والتابعين، فتخلف عنه الأنصار وقالوا: لم يعهد إلينا أبو بكر أمراً بعد فراغنا من القوم، ولا بد من انتظار رأيه. قال: فإني الأمير وقد عهد إليَّ بحرب المرتدين جملة، وإذا كنت لا أتمكن من مراجعته وخفت فوات الفريضة، أفليس أنتهزها، وهذه تميم بالبطاح مع مالك بن نويرة؛ فأما عوف والأبناء من بني تميم فقد كانوا أطاعوا الزبرقان بن بدر، وثبتوا على الإسلام وكان قيس بن عاصم على المقاعس والبطون، ففرق الصدقة على فقرائهم إلا أنه تاب لما رأى نكير الله فيمن خالف الإسلام، ولقي الجنود بأعداد ما قسم من الصدقة، وقال الزبرقان فيما كان من ثبوته وتأدية الزكاة:
وفيت باذواد الرسول وقد أبت .... سعاة فلم تردد بعيراً مجيرها
معاً ومنعناها من الناس كلهم .... ترانا الأعادي عندنا ما مصيرها
وأديتها كي لا أخون بذمتي .... مجانيق لم تدرس لركب ظهورها
أرود بها التقوى ومجد حديثها .... إذا عصبة سامى قبيلي فخورها
وإني لمن حي إذا عدَّ سعيهم .... يرى الفخر منها حيها وقبورها
أصاغرهم لم يضرعوا وكبارهم .... رزانٌ مراسيها عفافٌ صدورها
ومن رهط حيان توقيت ذمتي .... ولم يثن سيفي ينمها وهريرها
ولله ملك قد دخلت وفارس .... طعنت إذا ما الخيل شد مغيرها
ففرحت أولاها بنجلاء ثرة .... بحيث الذي يرجو الحياة قصيرها
[ومشهدصدق قد شهدت فلم أكن] .... [به حاملاً واليوم يثنى مصيرها]
أيا رهبة الأعداء مني جرءتي .... وفتكي إذا ما النفس يرجى ضميرها
وقد كان قيس بن عاصم قال لما قسم الصدقة في فقراء قومه كما يفعله كثير من أهل العصر ويظنون أن الإسلام يبقى مع ذلك قال:(1/49)


ألا أبلغا عني قريشاً رسالة .... إذا ما أتتكم (بينات) الودائع
حَبَوتبها في الدهر أعراض مِنْقَرٍ .... وأيأست منها كل أطلس طامع
في أبيات له وليس استقصاء ما قالوا غرضنا، وإنما نريد ما تقع به الدلالة، ولما أغار خالد بن الوليد على تميم وهم على ماء يقال له: البعوضة، وكان رسول اللهً قد ولى مالك بن نويرة على صدقات بني يربوع، فلما قبض رسول اللهً عمد مالك إلى ما جمع من الصدقة ففرقها على بني يربوع، وثبت بزعمه على الإسلام فلامه الأقرع بن حابس والقعقاع بن معبد بن زرارة وقالا: لا تعجل بتفريق ما في يدك فلا بد من قائم بالأمر بعد محمد ً، فقال:
أراني الله بالنعم المبدى .... ببرقة وجرجان فقد أراني
يميناً يابن عودة في تميم .... وصاحبك الأقيرع يلحياني
حميت حماها بالسيف صلباً .... فلم ترعش يدي ولا سنان
وقال مالك بن نويرة أيضاً:
وقلت خذوا أموالكم غير خائف .... ولا ناظر فيما يجيء من الغد
فإن قام بالأمر المخوف قائم .... أطعنا وقلنا: الدين دين محمد
ولما هجم عليهم المسلمون قالت تميم: من أنتم؟ قالوا : المسلمون. قالت تميم: فنحن المسلمون وما كان من مالك وأصحابه ردة فيما نعلمه إلا الالتواء على الزكاة وهم قائمون بالصلاة فقتلهم المسلمون وكان في القتلى مالك بن نويرة، وأخذ خالد امرأته بنت المنهال - وكانت من أجمل النساء - وأخذ رؤوس القتلى فبقيت بها القدور كل قدر على ثلاثة رؤوس، فمما ذكر أهل العلم بحادثتهم وحديثهم أن القدر التي كان تحتها رأس مالك بن نويرة نضجت قبل أن تصل النار إلى بشرة رأسه، ورثاه أخوه متمم بقصائد كثيرة مدونة في كتب العلم؛ لأنه أحد فحول الشعراء، ومن قصائده القصيدة:
ولسنا بأكفر من عامر .... ولا غطفان ولا من أسد
ولا من سليم وألفافها .... ولا من تميم وأهل الجند(1/50)

10 / 92
ع
En
A+
A-