فيه، ولا نزاع، فما معنى تصديره في بحث الفرقة الناجية ؟ وإن أراد به سواء كان حجازياً أم يمنياً أم شامياً، أي على المذهب السائد في الحجاز والمذهب السائد في اليمن والمذهب السائد في الشام، في زمان من الأزمنة التي اختلفت فيها المذاهب في هذه البلدان، فعبارته قاصرة عن إفهام مقصوده، وحينئذ يكون المعنى سواء كان جبرياً أم عدلياً أم شيعياً أم ناصبياً أم قرمطياً وهذا يصيّر كلامه متناقضاً...

بيان أهل الحديث وأنهم أهل البيت(عليهم السلام)
ثم قال مقبل: « وأقرب الناس ممن تنطبق عليه هذه الصفات هم أهل الحديث ».
والجواب: أهل الحديث مختلفون في العقائد والمذاهب والأعمال، وعلماء الزيدية من أهل الحديث، لأنهم يحتجون بالسنّة، ويعتقدون وجوب اتباع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي كتبهم الكثير الطيب، فإن أراد بقوله: « أهل الحديث » أئمته الذين عددهم، أي ابن المبارك والبخاري ومسلم، فهي دعوى تحتاج إلى بيّنة، لأن الصفات التي ذكرها الله تعالى في سورة العصر، وأول سورة المؤمنين، والحديث، واضحة جلية في كل من وضح منه العمل بكتاب الله وسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك واضح في علماء آل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من علي(عليه السلام)وفاطمة(عليها السلام)والحسنين(عليهما السلام)ومن بعدهم من ذريتهم، الذين توارثوا العلم والدين من ذلك الزمان، ولم يقلدوا في الدين من خالف آباءهم الطاهرين، بل أعظم همّهم أخذ العلم عن أسلافهم، وعرض ما ورد عليهم على الكتاب والسنّة المعلومة باليقين، والمجمع عليها بين المختلفين،(1/36)

وعملوا بحديث الثقلين ونحوه وحديث: « لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق »(1)[24]) ـ وتجنّبوا مخالطة الظلمة والركون إليهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فكانوا أحق باسم الإيمان هم ومن سلك طريقهم، وأحق أن يكونوا هم الفرقة الناجية، لقول الله تعالى في الفرق بين المنافقين والمؤمنين: ] المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم [ إلى قوله تعالى: ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم [(2)[25])
__________
(1) 24]) صحيح الترمذي 3 / 177 ط. الصاوي ـ مصر. وخصائص النسائي: 27 ط. التقدم ـ مصر. ومعرفة علوم الحديث للحاكم: 180 ط. القاهرة. وبحار الانوار للعلامة المجلسي 27 / 81، ح 21.
(2) 25]) سورة التوبة: الآية 71.(1/37)

وقوله تعالى: ] قالت الأعراب آمّنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ إلى قوله تعالى: ] إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [(1)[26]) وقوله تعالى: ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [(2)[27]) وقوله تعالى: ] والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين [(3)[28]).
وقد احتجّ مقبل ببعض كلام السيد محمد بن إبراهيم الوزير، فلنورد هنا شاهداً من كلام السيد محمد بن إبراهيم الوزير. قال في « العواصم » ما لفظه:
« الخصيصة الأولى: إن أهل البيت(عليهم السلام) اختصوا من هذه الفضائل بأشرف أقسامها، وأطول أعلامها، وذلك أنهم كانوا على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، والاشتغال بجهاد أعداء الله، وبذل النفوس في مرضاة الله، مع الإعراض عن زهرة الدنيا ـ إلى قوله ـ: وبذل النصيحة للناس وتعليمهم معالم الهدى... » ولا يبعد أن قد لزم الإقرار بهذا من مقبل في قوله في ( ص130 ): وقد روى المحدثون الكثير الطيب في فضل أهل البيت ـ إلى أن قال في (ص131): « وكتب السنّة مملوءة بفضائل أهل البيت(عليهم السلام)... » ففي هذا أنهم من الفرقة الناجية، لأنه لا يكون الفضل لهم بحيث تملأ فضائلهم كتب السنّة إلاّ وهم على هدى وطريق نجاة من الهلكة، فدل ذلك على أنهم ومن معهم ومن هو على طريقتهم هم الفرقة الناجية.
قال مقبل في أهل الحديث ( ص 9 ): « لأنهم لا يتعصبون لأي مذهب وإنما يتعصبون للحق ».
__________
(1) 26]) سورة الحجرات: الآية 14 ـ 15.
(2) 27]) سورة آل عمران: الآية 104.
(3) 28]) سورة العنكبوت: الآية 69.(1/38)

والجواب: إن عنى أئمته من أهل الحديث، فهل يعني ليس لهم مذهب يتعصبون له ؟ فهذا خلاف الواقع، لأن لهم مذاهب معروفة يتعصبون لها، منها تقديم أبي بكر وعمر وعثمان، وتفضيل الشيخين أو الثلاثة على علي(عليه السلام)، وتعصبهم لهذا ظاهر، حتى أن من خالفهم فيه يرمونه بالغلو في التشيع، وربما رموه بالرفض، وأقل أحواله أن يعتبر مبتدعاً ضعيفاً في الحديث في الغالب، إذا أحبّ علياً وقدمه ولم يسب، وكذلك يعتبرون من تكلم في أحد الثلاثة أو طلحة أو الزبير أو عائشة دجالاً كذاباً، أو رافضياً خبيثاً، لا يكتب حديثه، ويرمونه بسب الصحابة جملة في التعبير، ومن روى فضيلة تستلزم في ظنهم نقص أحد المذكورين وسبهم بزعم القوم جرحوه، لأنه عندهم يروي المثالب. فكيف لو روى مثلبة حقيقية ؟ بل جرحوا من روى في معاوية: « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه »(1)[29]) وجرّحوا من روى فيه وفي عمرو: « اللهم اركسهما في الفتنة »(2)[30]).
وإن أراد مقبل أن لأهل الحديث مذهباً يتعصبون له لكنه عنده هو الحق، فتعصبهم له تعصب للحق، بخلاف غيرهم من أهل المذاهب فهم يتعصبون للباطل.
__________
(1) 29]) تاريخ الطبري: 11 / 357، وتاريخ الخطيب: 12 / 181 وكنوز الحقائق للمناوي: ص10 واللآلي المصنوعة للسيوطي: 1 / 424 و 425، وتهذيب التهذيب: 2 / 428 وبحار الانوار للعلامة المجلسي: 33 / 191، الحديث 474 وفيه زيادة « على منبري يخطب فاقتلوه ».
(2) 30]) مسند أحمد 4 / 421 وكتاب صفين لنصر بن مزاحم: ص246 ط. مصر ـ والطبراني في الكبير.(1/39)

فالجواب: هذه دعوى، وكل أهل المذاهب يدعون أنهم أهل الحق، وأن تعصبهم لمذهبهم صلابة في الدين، فالتعليل الذي ذكره مقبل ـ يريد أنهم الطائفة التي لا تزال على أمر الله فيما روى ـ تعليل بمجرد الدعوى، فكأنه يقول: لا يزالون على أمر الله لأنهم أهل أمر الله، ولا يزالون على الحق لأنهم أهل الحق، لأن أمر الله هو الحق، والحق في الأمة هو أمر الله.
هذا، وإن أراد بأهل الحديث علماء السنة كلهم، فيشكل عليه قوله: « ليس لهم مذهب يتعصبون له » فخرج من كان زيدياً أو إمامياً أو شيعياً مطلقاً أو ناصبياً أو خارجياً أو عثمانياً أو وهّابياً أو شبه ذلك من أهل أسماء المذاهب المشهورة، حتى المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي، فمن هم أهل الحديث يا مقبل ؟
فإن قال: المراد أهل الحديث من أي فرقة كانوا، لأنهم في تعصبهم لمذاهبهم لا يريدون التعصب إلا للحق لا لكونه مذهباً لهم..
قلنا: من أين علمت إرادتهم وما في ضمائرهم على كثرتهم واختلاف مذاهبهم ؟ ولم لم تقل في علماء تفسير القرآن هكذا إنهم الفرقة الناجية ؟
ثم قال مقبل في ( ص 9 ): فالرجل الصالح المتبع للحق من الفرقة الناجية وإن لم يكن محدّثاً، إلا أن أهل الحديث يدخلون دخولاً أولياً. انتهى.
وهو إقرار لغيرهم ودعوى لهم، وليس الميزان بيد مقبل حتى يعرف الراجح من الأمة من المرجوح.

افتراء مقبل على أهل صعدة
ثم قال في ( ص 10 ): « وقد ظن بعض أهل صعدة أنهم ومن اتبعهم هم الفرقة الناجية، وهؤلاء قد تحجروا واسعاً ».(1/40)

8 / 58
ع
En
A+
A-