ورواية البخاري في جزء القراءة، فهذه الجملة تبين أن حديث قتادة الثابت عنه هو حديث الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [ وأنه الأصل. وأن الرواية عنه عن أنس بلفظ: فلم أسمع أحداً يقرأ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ إنما هي تصرف من الرواة نظراً للمعنى الذي يعتقدونه. وذلك في ثلاثة أسانيد كلها عن شعبة عن قتادة عن أنس، منها رواية ابن حبان كما قدمنا، وكذلك ما روي عن شعبة عن قتادة عن أنس بلفظ: فكانوا لا يجهرون بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ وهي رواية واحدة، قال البيهقي في السنن الكبرى ( ج 2 ص 1 ) بعد ذكر رواية شعبة عن قتادة عن أنس: « أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [ رواه البخاري في الصحيح عن أبي عمر حفص بن عمر، وهذا اللفظ أولى أن يكون محفوظاً، فقد رواه عامة أصحاب قتادة عن قتادة بهذا اللفظ، منهم: حميد الطويل، وأيوب السختياني، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان بن يزيد العطار، وحماد بن سلمة، وغيرهم، قال أبو الحسن الدارقطني: وهو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس. قال الشيخ ـ أي البيهقي ـ: وكذلك رواه إسحاق بن عبدالله بن طلحة، وثابت البناني عن أنس بن مالك وكذلك رواه أبو الجوزاء عن عائشة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [ انتهى.
والحاصل: أن الرواية المخالفة لهذا اللفظ معلّة بمخالفتها للرواية الثابتة المشهورة التي ظهر أن الرواة حفظوها على أصلها سواء كانت عن قتادة عن أنس، أو عن أنس من طريق غير قتادة، لما قدمناه من شهرتها عن أنس من طريق عدد من الرواة غير قتادة قد ذكرناهم فيما مرّ.(1/276)

قال مقبل ـ بعد إتمام الروايات التي ذكرناها الست والعشرين ـ: المطاعن التي أوردها السيوطي على بعض طرق الحديث وبعضها على الحديث جملة قال: وتبين أن لحديث مسلم السابق تسع علل: ( 1 ) المخالفة من الحفاظ والأكثرين ( 2 ) الانقطاع ( 3 ) تدليس التسوية من الوليد ( 4 ) الكتابة ( 5 ) وجهالة الكاتب ( 6 ) الاضطراب في لفظه ( 7 ) الإدراج ( 8 ) ثبوت ما يخالفه عن صحابيه ( 9 ) مخالفته لما رواه عدد التواتر. انتهى.
وزاد الحازمي: ( 1 ) القول بالنسخ عن بعضهم ( 2 ) ويمكن أن يزاد نسيان أنس. انتهى.
والجواب على مقبل: أنه هكذا أورد الحاصل دون التفصيل وهذا تقصير في الإنصاف، لأن هذه دعاوى وحججها تحتاج إلى بسط، فإذا وقع من مقبل الجواب عليها قبل الإيراد لحججها كان ذلك وسيلة لإبطالها بالجواب بسهولة.
ثم قال مقبل: الجواب عن هذه المطاعن: ( 1 ) أما الانقطاع فهو في طريق واحدة وهي طريق حميد لأن سماعه من أنس هذا الحديث مشكوك فيه، فقد صرح هنا بالواسطة بينه وبين أنس وهو قتادة كما في رقم ( 19 ) فبطلت هذه العلة.
والجواب على مقبل: أن الذي صرح حميد فيه بذكر الواسطة هو عن قتادة عن أنس أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [ وهذا لا يدل على مطلوب مقبل فلا ينفعه بطلان هذه العلة.
قال مقبل: وأما المخالفة ( 2 ) فقد تابع مالكاً على هذا المعنى غيره كما في حديث رقم ( 2 ) فلم أسمع أحداً يقرأ ] بسم الله الرحمن الرحيم [. رقم ( 4 ) فلم يكونوا يستفتحون القراءة بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [. رقم ( 13 ) لا يذكرون ] بسم الله الرحمن الرحيم [ فهذه تعتبر متابعة قاصرة إذ مخرج الحديث هو أنس ابن مالك.(1/277)

والجواب على مقبل: إن حديث مالك عن حميد أنه ذكر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في حديثه وخالفه الجماعة كما في كتاب مقبل. ولكن لم يثبت ذلك لأنه غير مذكور في الموطأ إلا عن أبي بكر وعمر وعثمان، وليس فيه: وأحسبه ذكر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ومع ذلك خالفت الرواة رواية مالك حيث قال في روايته: عن حميد عن أنس، فكلهم كان لا يقرأ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ إذا افتتح الصلاة، فرووا عن حميد عن أنس قال: كنت صليت خلف أبي بكر... الخ بدون ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وبلفظ: فكانوا يستفتحون قراءتهم بـ ] الحمد لله رب العالمين [ فالمتابعة القاصرة عن أنس من غير طريق حميد لا تفيد شيئاً لأنها معارضة برواية الجمهور عن أنس بلفظ: فكانوا يستفتحون قراءتهم بـ ] الحمد لله رب العالمين [ ونحوها، وهي متابعة لرواية الأكثر عن حميد بهذا اللفظ الذين خالفتهم رواية مالك، كيف وفي رواية أحمد رقم ( 17 ) عن قتادة وثابت وحميد عن أنس بن مالك أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
والحاصل: أن رواية الأكثر عن حميد بهذا اللفظ معارضة لرواية مالك، ورواية الجمهور عن حميد وغيره كما قدمناه بهذا اللفظ تعارض رواية مالك عن حميد. واين تقع ثلاث روايات في جنب خمس عشرة رواية ؟ فبطلت المتابعة القاصرة.
قال مقبل: ثم إنه يمكن الجمع بين هذه الروايات وبين رواية « كانوا يستفتحون بالحمد لله » بما ورد به مصرحاً في بعض طرق الحديث أنهم كانوا لا يجهرون، فمن نفى فالمراد بنفيه الجهر. ذكر هذا المعنى الحافظ ابن عبد البر.(1/278)

والجواب: إن رواية الحديث الأصلية المحفوظة هي: كانوا يستفتحون القراءة أو الصلاة بـ ] الحمد لله رب العالمين [. كما قدمنا، فهي أحق أن ترد إليها الروايات الشاذة عنها، وتحمل الشاذة على أنها من تصرف الرواة على ما فسروا به حديث الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [. فهو يجمعهم اعتقاد أن أنساً لم يسمع ] بسم الله الرحمن الرحيم [ فمن اعتقد أنها أسرت رواه بلفظ: لم يكونوا يجهرون، أو لم يسمع أنس، ومن اعتقد أنها تركت رواه بلفظ: لم يكونوا يذكرون ونحو ذلك.
فأما الجمع الذي ذكره مقبل فلا دليل عليه لأن رواية « لم يكونوا يجهرون » لم تصح لمعارضتها رواية الاستفتاح ولما في أسانيدها من المقال كما مر، فكيف تجعل هي العمدة ؟ وعلى هذا فلا موجب لتقليد ابن عبد البر.
قال مقبل: ( 3 ): وأما تدليس التسوية من الوليد فإن قتادة قد صرح في رواية الوليد أنه سمع أنساً.
والجواب: إن هذا غير صحيح، وإنما روى ابن المثنى عن أبي داود الطيالسي في حديث مسلم، عن شعبة بلفظ: فلم أسمع أحداً منهم يقرأ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ لأنه قال بعد هذا الحديث: حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثنا أبو داود، حدّثنا شعبة في هذا الإسناد، وزاد: قال شعبة: فقلت لقتادة: أسمعته من أنس ؟ قال: نعم نحن سألناه. فهذه في حديث شعبة بلفظ نفي السماع من أنس للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وهي غير رواية الوليد بنفي ذكر ] بسم الله الرحمن الرحيم [ لأنّا قد قدّمنا أن نفي السماع من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)محتمل ومع أنه لا إشكال أن نفي السماع غير نفي الذكر فكيف يدعي مقبل أن قتادة قد صرح بالسماع ؟ وهل هذا إلا تدليس ؟
قال مقبل: ثم إنه قد تابع الوليد أبو المغيرة كما عند أحمد برقم ( 13 ) وقد مرّت هذه في النوع السادس.(1/279)

والجواب: إن التدليس بحذف الواسطة بين الأوزاعي وقتادة وهو الكاتب، وهذا ظاهر قول السيوطي: تدليس التسوية من الوليد فالتدليس في قول الوليد: حدّثنا الأوزاعي عن قتادة. ولا يدفع ذلك متابعة أبي المغيرة للوليد لأنها لم ترفع التدليس المذكور، بل الروايتان عن الأوزاعي قال: كتب إلي قتادة، فلا تفيد هذه المتابعة لأنها لم ترفع تدليس الوليد.
قال مقبل: ومحمد بن يوسف ـ أي تابع أبا الوليد عند البخاري في جزء القراءة ـ ومفضل بن يونس، وإبراهيم بن أدهم عند أبي نعيم، والوليد بن مزيد عند البيهقي، ومحمد بن شعيب كما عند ابن عبد البر، فكيف يقدح في رواية الوليد وقد صرح بالسماع كما عند مسلم ؟ أي صرح الوليد بسماعه عن غير قتادة عن أنس، وعبارة مقبل توهم أن الوليد صرح بالسماع من قتادة وليس كذلك.
ثم قال مقبل: وصرح قتادة بالسماع عن أنس كما عند عبدالله بن أحمد وأبي داود الطيالسي وغيرهما.
والجواب: إنا لا ندفع سماع قتادة عن أنس لأصل الحديث بلفظ الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [، وهو الذي في رواية أبي نعيم من طريق مفضل بن يونس وإبراهيم بن أدهم، وليس فيه: لا يذكرون ] بسم الله الرحمن الرحيم [ كما في ( ص 69 ) من كتاب مقبل، وفي رواية البخاري في جزء القراءة في حديث: كانوا يفتتحون القراءة، كما ذكره مقبل ( ص 67 ). وأما رواية محمد بن يوسف فلا نسلم أن فيها متابعة للوليد بما يرفع التدليس بحذف الكاتب، وكذلك متابعة الوليد ابن مزيد فلا فائدة في ذلك إلا سلامة الوليد بن مزيد من نسبة التدليس إليه وجعله مدلساً، لأنه لم يقل: حدّثنا الأوزاعي عن قتادة كما قال الوليد بن مسلم، فأما ذكر الواسطة أو بيان أنه لا واسطة بين الأوزاعي وقتادة فلم يحصل.(1/280)

56 / 58
ع
En
A+
A-