وإذا ظهر أنه يروي من حفظه ويخطئ فهذا الحديث وأشباهه مما يخالف فيه رواية الجمهور يكون مظنّة الخطأ، فهو محمول على أنه الذي رواه المحدثون عن شعبة بلفظ: فكانوا يستفتحون القراءة أو الصلاة بـ ] الحمد لله رب العالمين [، لأن هذا عن شعبة، فحفظ أبو داود المعنى الذي اعتقده ورواه فغلط بسبب غلطه في فهم المعنى، لأن الذي ظهر من الأولين أنهم إنما كانوا يحفظون الألفاظ في الغالب تبعاً لحفظ المعنى، ولذلك تجد الحديث الواحد يأتي بألفاظ مختلفة، إنما يحافظون على اللفظ بخصوصه في القرآن والأذكار من الأدعية وغيرها. فأما في الأحكام فإن أذهانهم تتوجه نحو المعنى المقصود فيحفظونه، ويعبرون عنه باللفظ الذي يفيده مع تحري اللفظ تبعاً لتحري المعنى لا أصالة كألفاظ القرآن والأذكار، فلهذا تختلف الألفاظ إذا اشتهر الحديث وكثرت رواته اختلافاً كثيراً. وحديث شعبة، عن قتادة عن أنس باللفظ المذكور في النوع الأول: يستفتحون بـ ] الحمد لله رب العالمين [ أو نحوه يروى عنه من طريق حفص بن عمر، وعمرو بن مرزوق، ومحمد بن جعفر، الذي يقال له غندر، وأبي داود الطيالسي في مسنده ( ج 1 ص 52 ). فهي أوثق من رواية أبي عبدالله السلمي عن أبي داود الطيالسي وعن شعبة، لأن روايتهم وهم أكثر أقوى من رواية أبي داود وحده. ورواية أبي داود الموافقة لهم المثبتة في كتابه أقوى من روايته التي ليست في كتابه، فالظاهر أنه رواها من حفظه وغلط فيها كما قلنا.
هذا وأبو عبدالله السلمي لا أعرفه، ولعله غلط فيه كما غلط مقبل، أو دلس بنسبته إلى مسلم ( ج 4 ص 111 ) والذي فيه إنما هو في حديث: فلم أسمع أحداً منهم يقرأ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ وهذا يخبر عن عدم السماع بخلاف حديث عبدالله في زوائد المسند فإنه نفاها جزماً.(1/271)
وأما الحديث الثاني من هذا النوع وهو رقم ( 16 ) فلم يتحقق رفعه إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فأغنى ذلك عن تطويل الجواب، مع أن لفظه مخالف للأقوى من الرواية عن حميد، كما هو محقق في كتاب مقبل، فلا حاجة إلى الجدال في لفظه الذي رواه مالك: فلم يكونوا يستفتحون القراءة بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [.
فهذه جملة ما أورده مقبل للاحتجاج لإسرار البسملة ـ وجملته ( 26 ) رواية رجعت في لفظها إلى سبعة أنواع كما ترى. ولا يبعد أن أصلها كلها النوع الأول، إلا أنها تعددت لاختلاف الفهم، واختلاف التعبير، يؤكد ذلك أن بعض المخالفين ومنهم مقبل يعتقدون أنها كلها عبارة عن ترك الجهر، فما المانع أن يكون الرواة يعتقد أكثرهم ذلك، ويعتقد بعضهم أن مقصود أنس بقوله: كانوا يستفتحون بـ ] الحمد لله رب العالمين [ أنهم يتركون البسملة ؟ وهذا مع كون الرواية هذه كلها عن أنس، والرواية التي بلفظ: « يستفتحون الصلاة أو القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [ » هي أكثر من سائر الألفاظ كما بيّناه في النوع الأول وبقية الأنواع. فأكد ذلك أن الرواية الأصلية هي رواية الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
ويؤكد ذلك أن أكثر هذه الروايات المختلفة هي عن قتادة عن أنس، وذلك رقم ( 2 ) ورقم ( 3 ) ورقم ( 4 ). أمّا رقم ( 5 ) عن ثابت عن أنس فضعفوا. الرواية عن ثابت. هذا وجعلوا الصواب عن قتادة عن أنس، كما هو محقق في كتاب مقبل ( ص 66 و 67 ) وكذلك رقم ( 6 ) عن قتادة عن أنس ورقم ( 7 ) ورقم ( 8 ) ورقم ( 9 ) ورقم ( 10 ) ورقم ( 11 ) ورقم ( 12 ) ورقم ( 13 ): كتب إلي قتادة، حدّثني أنس. ورقم ( 14 ) من طريق ابن حبان، عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك، ورقم ( 15 ) عن قتادة عن أنس.(1/272)
أما رقم ( 16 ) فهو عن حميد عن أنس، ولكن لم يتحقق رفعه إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وترجح أنه ليس لفظه إلا: صلَّيت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون قراءتهم بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
ورقم ( 17 ) عن قتادة وثابت وحميد، عن أنس بن مالك أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
ورقم ( 18 ) عن قتادة وحميد وأبان عن أنس: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان يقرؤون ] الحمد لله رب العالمين [.
ورقم ( 19 ) عن قتادة عن أنس.
أما رقم ( 20 ) فهو عن حميد الطويل، عن أنس قال: صليت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله.
وأما رقم ( 21 ) فهو عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك قال: صلّيت خلف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
ورقم ( 22 ) عن سويد بن عبد العزيز، عن عمران القصير، عن الحسن، عن أنس بن مالك أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يسر بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [. فهذا الحديث وحده هو المخالف في السند عن أنس، وفي لفظ المتن، وقد مرّ الكلام في سويد.
أما عمران القصير ففي ترجمته في « تهذيب التهذيب » عن يحيى بن معين: هذا عمران القصير ليس بشيء. انتهى.
ورقم ( 23 ) عن منصور بن زاذان، عن أنس بن مالك قال: صلّى بنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلم يسمعنا قراءة ] بسم الله الرحمن الرحيم [.
ورقم ( 24 ) عن ابن سيرين والحسن، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبو بكر وعمر وعثمان يستفتحون بـ ] الحمد لله رب العالمين [.(1/273)
ورقم ( 25 ) عن محمد بن لوح، عن أنس بن مالك قال: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر يستفتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
ورقم ( 26 ) عن أبي قلابة، عن أنس قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبو بكر وعمر لا يجهرون بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [. وهي من طريق ابن حبان وقد تكلمنا فيه.
فظهر أن الست والعشرين أكثرها عن قتادة عن أنس وذلك ست عشرة رواية كما ظهر أن خمس عشرة رواية بلفظ الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [وفي لفظ يقرؤون ] الحمد لله رب العالمين [.
وظهر أن الأصل حديث واحد هو حديث الافتتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [ لأنه لم يخالف السند ولفظ المتن جميعاً إلا حديث سويد بن عبد العزيز عن عمران القصير عن الحسن. وحديث ابن حبان عن أبي قلابة. والروايتان ضعيفتان لا يعمل بهما.
ولنا في الجواب طريقة أخرى في التعبير كالتحصيل والتلخيص لما قدمناه. وهي أن حديث الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [ روي عن أنس من خمس عشرة طريق منها: عن قتادة عن أنس، ومنها: عن قتادة وثابت وحميد عن أنس، أو عن قتادة وثابت عن أنس، ومنها: عن مالك بن دينار عن أنس، ومنها: عن ابن سيرين والحسن عن أنس، ومنها: عن محمد بن لوح(1)[148]) عن أنس، فظهر أن هذه الرواية عن أنس هي القوية وأنها الأصل فيه وقد حقق قوتها وبسط في ذلك في نصب الراية ( ج 1 ص 226 ).
وكذلك ظهر أنها الأصل في حديث قتادة لأنها رويت عنه من طرق بعضها من طريق شعبة، وبعضها من طريق غيره، فمن طريق شعبة رواية البخاري والبيهقي، عن حفص بن عمر، عن شعبة، ورواية البخاري عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة، ورواية ابن خزيمة عن محمد بن جعفر عن شعبة، ورواية أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، ورواية ابن عبد البر عن علي بن الجعد عن شعبة.
__________
(1) 148]) كذا، ولعله نوح. « المؤلف ».(1/274)
أما الرواية لحديث الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [ عن قتادة عن أنس من غير طريق شعبة فرواية أحمد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس والبخاري في جزء القراءة كذلك، وابن أبي شيبة والطحاوي وابن عبد البر كلهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. ورواية أحمد عن أيوب عن قتادة عن أنس. وكذلك البخاري في جزء القراءة، والنسائي وابن ماجة وابن الجارود والشافعي في الأم، والبيهقي في السنن، وابن عبد البر كلهم عن أيوب، عن قتادة، عن أنس قال: « صلّيت خلف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون بالحمد لله ». انتهى.
وهذه الرواية تقوي ما فسرنا به الحديث، ورواية أحمد عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس. وكذلك البخاري في جزء القراءة وأبي داود والدارمي وابن أبي شيبة وابن عبد البر والخطيب. ورواية أحمد عن هشام، حدّثنا قتادة عن أنس، ورواية البخاري في جزء القراءة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس، وكذلك النسائي والترمذي وابن خزيمة، والخطيب.
ورواية أحمد من ثلاث طرق عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، وكذلك البخاري في جزء القراءة.
ورواية أبي نعيم عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس، وكذلك الدارقطني بلفظ: « وكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر فيه » وهذه الرواية تؤكد ما فسّرنا به حديث الاستفتاح بـ ] الحمد لله رب العالمين [.
ورواية ابن عبد البر عن شعبة وشيبان عن قتادة عن أنس، وهكذا الخطيب، ورواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان يقرؤون ] الحمد لله رب العالمين [.
ورواية ابن حبان عن حميد وسعيد، عن قتادة، عن أنس.(1/275)