وفي صحيح البخاري ( ج 5 ص 222 ) في باب قوله: ] ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم [(1)[146]) في حديث، ثم قال ـ أي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ فذهب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ليخرج فذكرته فقال: ] الحمد لله رب العالمين [ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. انتهى.
وذكره البخاري عند ذكر سورة الأنفال في الجزء الخامس ( ص 199 ) وذكره في أول كتاب التفسير من صحيحه في باب ما جاء في فاتحة الكتاب من ( ج 5 ص 146 ).
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ( ج 2 ص 45 ) بسنده عن أبي هريرة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنه كان يقول: « الحمد لله رب العالمين سبع آيات ».
وفي تفسير ابن كثير ( ج 1 ص 22 ) في ذكر ما ورد في فضل الفاتحة ذكر الحديث الأول بسنده من مسند أحمد ثم قال: وهكذا رواه البخاري وعلي بن المديني. ثم قال: ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة من طريق شعبة به، ثم أخرجه من مسند أحمد عن ابن جابر في ( ص 24 ) ثم قال: هذا إسناد جيد.
فبطل احتجاج مقبل بالنوع الأول الذي هو خمس عشرة رواية من الست والعشرين.
النوع الثاني: من الأنواع السبعة ثلاث روايات:
الرواية الأولى رقم ( 2 ): عن شعبة قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال: « صلّيت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً يقرأ: ] بسم الله الرحمن الرحيم [.
الرواية الثانية رقم ( 14 ): عن شعبة وشيبان عن قتادة قال: سمعت أنس ابن مالك قال: صليت خلف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً يجهر بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [. وهذه الرواية من طريق ابن حبان.
__________
(1) 146]) سورة الحجر: الآية 87.(1/261)

الرواية الثالثة رقم ( 15 ): عن شعبة وابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً يجهر بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [.
والجواب عن هذا النوع: إن عدم سماع أنس للجهر بها لا يدل على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يجهر إلا إذا كان بحيث يسمع لو جهر بها، ولم يثبت أنه كان قريباً من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بحيث يسمع إذا جهر بها، وليس مظنّة القرب لأنه من صغار الصحابة، وعلى هذا فلا يصح معارضة روايات الجهر المثبتة له بهذه الرواية التي لم تصرح بنفي الجهر ولا صحت دلالتها على معنى نفي الجهر.
وأيضاً يحتمل أن أنساً لم يكن ينتبه للجهر بها بعينها لغفلته أوّلاً مع حداثة سنّه، وثانياً لعدم الخوض في الجهر بها، فلا يخطر بباله أن يتأمل هل يجهر بها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كان يسمعه يجهر بالقراءة جملة، ولذلك لا ينتبه للجهر بالبسملة على التعيين.
قال في نصب الراية ( ج 1 ص 363 ): وغير مستبعد وقوع الاختلاف في مثل هذا. وكم من شخص يتغافل عن أمر هو من لوازمه حتى لا يلقي إليه بالاً البتة، وينتبه لأمر ليس من لوازمه ويلقي إليه باله بكليته. ومن أعجب ما اتفق لي أني دخلت جامعاً في بعض البلاد لقراءة شيء من الحديث، فحضر إلي جماعة من أهل العلم وهم من المواظبين على الجماعة في الجامع، وكان إمامهم صيتاً يملأ الجامع صوته، فسألتهم عنه هل يجهر بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ أو يخفيها ؟ فاختلفوا عليّ في ذلك، فقال بعضهم: يجهر بها وقال بعضهم: يخفيها. وتوقف آخرون، انتهى المراد.(1/262)

فلا يبعد أن أنساً كان غافلاً عن الجهر بالبسملة، فعندما وقع الخوض فيها في دولة بني أمية لم يستحضر أنس أنه كان يسمعها واعتقد أنه لم يكن يسمعها فأخبر على اعتقاده أنه لم يسمع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يجهر بها. ولهذه لا يعارض قوله قول من أثبت الجهر بها لأن الإثبات يستند إلى العلم بالجهر، والنفي يستند إلى عدم العلم بالجهر واعتقاد أنه لم يقع وذلك لعدم العلم به، وهذا ظاهر في البشر وطباعهم أنهم كثيراً ما يعتقدون في بعض ما قد وقع أنه لم يقع لعدم علمهم بوقوعه. وعلى هذا بنيت قاعدة ترجيح المثبت على النافي.
مع أنه يحتمل أن من روى هذا النوع عن أنس بلفظ نفي سماع الجهر بالبسملة إنما سمع قوله: صليت خلف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون أو يفتتحون بـ ] الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ [ فتوهّم الراوي أنه عنى أنه لم يكن يسمعهم يجهرون بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ كما اعتقده من احتجّ به على ترك الجهر بالبسملة، فرواه على المعنى الذي يعتقده باللفظ الذي يدل عليه، فروى أنه قال: لم أسمع، لأن المهم في الروايات هو المعنى إذا لم تكن رواية قرآن ولا ذكر من الأذكار، وإنما المقصود المعنى فكانت الألفاظ فيه تحفظ تبعاً للمعنى، ومن غلط في فهم المعنى غلط في لفظ الرواية تبعاً لغلطه في فهم المعنى، ولكون المقصود هو المعنى تجد الحديث المشهور يروى بألفاظ مختلفة كثيرة وهذا واضح.
وقد تبيّن أن الرواية الأصلية هي النوع الأول لكثرة طرقها، لأنها تروى بخمسة عشر سنداً كما مرّ، فهذه الروايات الثلاث محمولة عليها ومردودة إليها.
وحاصل هذه الجوابات ثلاثة أجوبة:
الأول: أن أنساً لم يقل: لم أسمع. وإنما قال: كانوا يفتتحون بـ ] الحمد لله رب العالمين [.(1/263)

الثاني: أنه يحتمل أنه اعتقد أنه لم يسمع لغفلته عن الجهر بالبسملة بعينها فنفى السماع لاعتقاده أنه لم يسمع، ولا يدل ذلك على أنه لم يسمع في الواقع سماعاً مع غفلته عن الجهر بالبسملة.
الثالث: أنه وإن لم يسمع فقد أثبت غيره الجهر، ومقتضى ذلك أن أنساً إذا لم يسمع فليس عدم سماعه لعدم الجهر، بل هو لبعده مثلاً أو أي مانع. فنفي سماع الجهر ليس نفياً للجهر، فلا يعدل عن رواية الجهر لمجرد استبعاد عدم سماع أنس ثبوت الجهر.
النوع الثالث: ما ورد في رقم ( 3 ) بلفظ: فكانوا لا يجهرون بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ ورقم ( 5 ) « فلم يكونوا يجهرون » ورقم ( 26 ) بلفظ: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وابو بكر وعمر لا يجهرون بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [.
والجواب، عن هذا النوع: انه يحتمل انّ الرواة لهذا النوع سمعوا النوع الأول فتوهمّوا أن المراد بقوله: كانوا يستفتحون بـ ] الحمد لله رب العالمين [ أنهم لم يكونوا يجهرون بها كما توهم غيرهم ممن يحتج بالنوع الأول على ترك الجهر. وقد قدّمنا أنه لا يدل على ترك الجهر. وكثير من الرواة يروون على المعنى الذي يعتقدونه، ولذلك فلا يعارض به الروايات المثبتة للجهر. ولو فرض أن أنساً رواه بهذا اللفظ لم يصح أن يعارض به الروايات المثبتة للجهر، لأن المثبت مقدم على النافي، ولأن أنساً طال عمره وبعد عهده برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فجاز أن يكون نسي الجهر بها واعتقد أنهم لم يكونوا يجهرون بها، ولا سيما مع كبره وتجاوزه في العمر مائة عام، مع أن الرواية الثانية من هذا النوع التي هي رقم ( 5 ) في كتاب مقبل مُعلّةٌ كما بيَّنه مقبل في كتابه.(1/264)

والرواية الثالثة من هذا النوع التي هي رقم ( 26 ) هي عن أبي قلابة عن أنس، وأبو قلابة متهم في هذه المسألة لأن النواصب يتعصبون لمنع الجهر بالبسملة مراغمة منهم للشيعة ومعارضة للمشهور عن علي(عليه السلام)ونصرة لمن كان يسر بها من الأموية. وأبو قلابة متهم بالنصب بصري شامي، وحكى فيه ابن حجر في « تهذيب التهذيب » عن العجلي أنه قال فيه: بصري تابعي ثقة وكان يحمل على علي.
وقال ابن حجر في آخر ترجمته عن القابسي المالكي أنه قال فيه: وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين، وهو عند الناس معدود من البله، انتهى.
النوع الرابع: رواية واحدة خالفت الروايات السابقة كلها وهي رقم ( 23 ) في كتاب مقبل نسبها إلى النسائي ( ج 2 ص 104 ): أخبرنا محمد بن علي ابن شقيق قال: سمعت أبي يقول: أنبأنا أبو حمزة، عن منصور بن زاذان، عن أنس ابن مالك قال: « صلى بنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلم يسمعنا قراءة ]بسم الله الرحمن الرحيم [ وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما »، وهذه الرواية تحتمل أن الراوي رواها على المعنى الذي يعتقده، كأن يسمع عن أنس أنه لم يسمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يجهر بها، فعبر بما يعتقده المعنى وخالف في اللفظ. ولعله أبو حمزة السكري فقد قال فيه ابن حجر: قال ابن عبد البر في التمهيد: ليس بقوي ذكره في ترجمة سمي. وقال النسائي: لا بأس بأبي حمزة إلا أنه كان قد ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب عنه قبل ذلك فحديثه جيد، وذكره ابن القطان الفاسي فيمن اختلط. انتهى.
قلت: فهو متهم في هذه الرواية المخالفة في لفظها لسائر الروايات عن أنس في حديث البسملة.(1/265)

53 / 58
ع
En
A+
A-