والجواب: إنه يكفي ما ذكرناه في الرد على هذا الاعتراض، وقد رواه الدارقطني في سننه ( ج 1 ص 316 ) عن أنس قال: « صليت خلف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر فيه ». انتهى.
فبطل احتجاج مقبل بتلك الخمس عشرة رواية.
وبقي روايات إحدى عشرة منها رواية رقم ( 2 ) عن أنس قال: صليت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً يقرأ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ومثلها رقم ( 14 ) ورقم ( 15 ) وهذا يحتمل أنه كان غفل عن خصوص البسملة، لأنه لم يكن سبق فيها نزاع بين الأمة بخصوصها، فكان ينتبه للقراءة جملة من دون تفصيل، فلما وقع الخلاف فيها بعد أن تركها معاوية مرة وصارت المسألة هامة ظن أنه لم يكن يسمعها لأنه لا يذكر ذلك بخصوصه.
يؤكد هذا ما ذكره مقبل في ( ص 76 ) من رواية أحمد: حدّثنا إسماعيل، قال سعيد بن يزيد: أنبأنا قال: قلت لأنس: أكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يستفتح القراءة بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ أو بـ ] الحمد لله رب العالمين [ ؟ فقال: إنك لتسألني عن شيء ما سألني عنه أحد. انتهى.
وأخرجه الدارقطني بسند آخر عن سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك... الخ فقال: هذا إسناد صحيح ذكره في ( ج 1 ص 316 ). وقوله في السند: « قال سعيد بن يزيد: أنبأنا ». لعله غلط أصله « قال: أنبأنا سعيد بن يزيد » وقوله: « ما سألني عنه أحد » قرينة لتقدم هذا السؤال قبل الخوض وانتشار الخلاف في المسألة، ومثله يحدث الشك في مسألة هو غافل عنها ويخاف من الرواية لما لا يذكره وإن كان هو يجهر بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [ بناء على أنها من الحمد، وعلى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يجهر بالحمد في اعتقاده جملة من دون تحقيق للبسملة بخصوصها.(1/256)
وإنما قلت: إن قوله: « ما سألني عنه أحد قبلك » قرينه لتقدم السؤال قبل الخوض والخلاف في المسألة، هذا لأنه مظنّة أن يسأل عنها عند الخلاف بين شيعة علي وشيعة معاوية، وتتكرر الأسئلة وتكثر على أنس لاستمرار الخلاف واشتهاره بحيث لا ينسى أنس أنه سئل فيقول: ما سألني عنه أحد قبلك.
فالحاصل أن تقدم السؤال هذا أظهر، وأن أنساً مظنة أنه شكك عليه حتى آل أمره إلى ظن أنه لم يكن يسمعها من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لأنه لم يذكر ذلك، ومع أنه يحتمل أنه كان في وقت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بعيداً عنه لحداثة سنّه، واشتغال المكان القريب بكبار الصحابة، ومع بعده وغفلة الصغر لا تتضح له قراءة البسملة ولا ينتبه للتأمل هل يقرأها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فكأنه لم يسمعها، وكان في كثير من الحالات لا يسمعها حقيقة كحالة مصادفتها للجة التكبير مع كثرة المصلين، وعلى هذا فنفيه لسماعها مبني على اعتقاده أنه لم يكن يسمعها، وذلك لا يدل على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن يجهر بها لأنه يمكن أنه كان يجهر بها وإن ظن أنس أنه لم يكن يسمعها.
ويمكن أن قراءة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كان الجهر في أولها يكون خفيفاً، ثم يرتفع على التدريج حتى يكون الجهر في آخر السورة أقوى من أولها.
فإن قيل: هذا تأويل، والتأويل إنما يصار إليه عند وجود دليل يقتضيه.
قلنا: ليس تأويلاً، لأنا أبقينا النفي على ظاهره، وإنما جوّزنا عليه الخطأ في النفي، لأن النفي يكون فيه الغلط بالبناء على الأصل واعتقاد أن الشيء لم يكن، وذلك لخلو الذهن عنه والغفلة عن تجويز أنه وقع ولم يعلم النافي، كما مر في نفي الدخول ببروع بنت واشق.(1/257)
ونحن في هذا البحث إنما جوّزنا على أنس توهم أنه لم يسمعها لسبب ظاهر، وهو صغر سنّه وعدم ما يلفت ذهنه إلى تأمّل البسملة بخصوصها، كما أن بعض المؤتمّين ينسى السورة التي قرأها الإمام لأنه لم يكن يريد أن يعرف ماذا يقرأ الإمام من السور، وهذا مع كون أنس مظنّة أنه كان يكون بعيداً يصلّي بحيث لا يسمع تفصيلاً مع غفلة الصغر وعدم التأمل. ومقتضى ذلك أن نفي السماع لا يدل على عدم الجهر، لأنه لا دليل على التلازم هنا فلا يعارض به إثبات الجهر لأنّ المثبت يقدم على النافي.
تحقيق الجهر بـ ] بسم الله الرحمن الرحيم [
وقد رجحت إيراد الجواب مفصلاً بزيادة من الإيضاح لتمام الفائدة. فأقول:
إعلم أن جملة الروايات التي احتجّ بها مقبل للإسرار بالبسملة ست وعشرون رواية، وهي تنقسم إلى سبعة أنواع:
النوع الأول: ما ورد بلفظ: « كانوا يستفتحون الصلاة بـ ] الحمد لله رب العالمين [. وذلك الروايات رقم ( 1 ) و ( 7 ) ( 21 ). وبلفظ: « كانوا يستفتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [. وذلك رقم ( 6 ) و ( 7 ) و ( 11 ) و ( 12 ) و ( 17 ) و ( 25 )، وبلفظ: « كانوا يفتتحون بالحمد لله ». وذلك رقم ( 8 )، وبلفظ: كانوا يفتتحون القراءة بـ ] الحمد لله رب العالمين [. وذلك رقم ( 9 ) و ( 19 )، وبلفظ: كانوا يستفتحون القراءة بعد التكبير بـ ] الحمد لله رب العالمين في الصلاة [، وذلك رقم ( 10 ) وبلفظ: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبا بكر وعمر وعثمان يقرؤون ] الحمد لله رب العالمين [. وذلك رقم ( 18 )، وبلفظ: يستفتحون بـ ] الحمد لله رب العالمين [ وذلك رقم ( 24 ).(1/258)
فهذه الألفاظ أورد فيها خمس عشرة رواية وهي ما تحت الأرقام المذكورة، وهذا النوع لا حجّة فيه للإسرار بالبسملة. لأن الفاتحة يعبر عنها بكلمة « الحمد لله » وبكلمة: ] الحمد لله رب العالمين [ كما يقال: ] ق والقرآن المجيد [لسورة « ق » و ] قل هو الله أحد [ لسورة الإخلاص، وقد استعمل نحو هذا مقبل نفسه في كتابه الرياض حيث قال في ( ص 43 ): وأين الدليل على أنه يفصل بين التكبيرتين في صلاة الكسوف بالحمد لله مرة ؟ الخ ـ أي بالفاتحة ـ وقال هناك في صلاة الجنازة: وبعد الثالثة بـ ] قل أعوذ برب الفلق [ أي بالسورة، وفي مجموع زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي(عليهم السلام): « كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يوتر بثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن يقرأ في الأولى: ] سبح اسم ربك الأعلى [وفي الثانية: ] قل يا أيها الكافرون [ و ] قل أعوذ برب الناس [.
وفي صحيح البخاري ( ج 1 ص 173 ) في حديث: « يا معاذ، أفتّان أنت ؟ فلولا صليت بـ ] سبح اسم ربك الأعلى [ ] والشمس وضحاها [ ] والليل إذا يغشى [ ».
وفي صحيح البخاري أيضاً ( ج 1 ص 185 ) أن أمّ الفضل سمعته يقرأ: ] والمرسلات عرفاً [. وفي ( ص 186 ): صليت مع أبي هريرة فقرأ: ] إذا السماء انشقت [. وذكر البخاري هناك: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقرأ: ] والتين والزيتون [في العشاء، وعلى هذا فالمراد كانوا يستفتحون بقراءة الفاتحة وهذا هو الذي اختاره النسائي وعقد له باباً في سننه فقال: باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة، وذكر في الباب حديثين من هذا النوع.
وقد روى الدارقطني في سننه ( ج 1 ص 316 ) هذا الحديث عن أنس بلفظ: « كانوا يستفتحون بأمّ القرآن ». انتهى.(1/259)
وقال البيهقي في السنن الكبرى ( ج 2 ص 51 ): قال الشافعي: « يعني يبدأون بقراءة أمّ الكتاب قبل ما يُقرأ بعدها، والله أعلم » ولا يعني أنهم يتركون ] بسم الله الرحمن الرحيم [.
واعترضه التركماني في حاشيته فقال: قال في العمدة: هذا ليس بقوي، لأنه إن أجري مجرى الحكاية فهذا يقتضي البداءة بهذا اللفظ بعينه فلا يكون قبله غيره لأن ذلك الغير هو المفتتح به، وإن جعل اسماً فسورة الفاتحة لا تسمى بهذا المجموع أعني ] الحمد لله رب العالمين [ بل تسمى الحمد، فلو كان لفظ الرواية كان يفتتح بالحمد لقوي هذا فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة، انتهى.
والجواب: إنه يقال: ] الحمد لله رب العالمين [ تعبيراً عن السورة كما يقال: الحمد والحمد لله. ولكن يقال: الحمد أو الحمد لله اختصاراً وإحالة على فهم السامع، ويقال: ] الحمد لله رب العالمين [ وذلك أوضح في الدلاله على الفاتحة، لأنه يميزها عن السور التي في أولها الحمد لله غير الفاتحة وهن: الأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، كما يسمى غيرها من سور القرآن بما في أولها، ولم تجعل البسملة من اسمها للاشتراك فيها بين أكثر السور. فجعلها من اسم السورة تطويل في الاسم، والمراد أنه يعبر عن هذه السورة بذكر أولها بعد البسملة، وكذلك يعبر عن الحديث في بعض الحالات، كما في شعر الهبل: ( تركت مديحكم من أجل: إني تارك فيكم ) يعني من أجل حديث الثقلين، لأنه لا يستطيع إكمال التعبير عن فضلهم الذي دل عليه الحديث. أو لأنه من تحصيل الحاصل لأن الناس قد عرفوه بحديث الثقلين، وكذلك تفعل العرب في التعبير عن القصائد بذكر أولها فيقال مثلاً: قفا نبك لإحدى المعلقات السبع.(1/260)