فأما عبيد الدنيا وخدم السياسة الدولية فهم أعداؤهم من عهد قديم، لأن الدنيا تكون مع الملوك، وأكثر الناس لا يصبرون على تحمل مشاق الجهاد والفقر والخوف والتشريد والتطريد، فيميل أبناء الدنيا مع ملوك الجور، ويكونون أعوانهم على ظلم آل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلا يقرون بمثل هذا.
الدلالة الثالثة: حيث أوصى بهم كما أوصى بالكتاب في مقام إرشاد الأمة إلى ما ينجيهم من مضلاّت الفتن، وظلمات الشبه، وتلبيس المفسدين، لإشراف الأمة على فتن كقطع الليل المظلم، وإشراف الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)على فراقهم، كما يدل عليه قوله: « إنّي أوشك أن أدعى فأجيب، وإنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا » فكان المقام مقام إرشاد لسبب النجاة من الضلال بأسباب مضلة ينجيهم منها التمسك بالثقلين، لا لمجرد بيان الأدلة الشرعية، لأن الأمة قد علمت أن الكتاب والسنّة دليلان منيران هاديان لمن اهتدى بهما. وكون الكتاب حجّة هو أمر مفروغ منه من أول البعثة، فليس ذكره في هذا الحديث لمجرد بيان أنه حجّة، كيف وهو دليل النبوة الأكبر ؟ واعتماده وتلاوته على الأمة لهدايتهم وتعلميهم الدين والأحكام كان من أول البعثة بنحو عشرين سنة، فهو أمر مفروغ منه. ولكن ذكره هنا لامتيازه بأنه محفوظ من الزيادة والنقصان، معلوم للأمة مشهور بينها، منشور لا تبدل كلماته، ولا تكتم آياته، فكان المعتصم به من الضلال معتصماً بما هو من عند الله حقّاً جعله هدى للمتقين ونوراً، وكان الطالب للتمسك بالكتاب يتمكن منه ولا يمكن صرفه عنه باختلاق كلام يدّعى أنه من القرآن وما هو من الكتاب.(1/156)
فهذا وجه ذكر القرآن هنا دون السنة في هذه الرواية التي هي مشهورة بين الأمة. مع أن السنة هي الدليل الثاني، والقرآن يدعو إلى اتباعها في قول الله تعالى: ] فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه [(1)[115])وقوله تعالى: ] من يطع الرسول فقد أطاع الله [(2)[116]) وقوله تعالى: ] وإن تطيعوه تهتدوا [(3)[117]). وقوله تعالى: ] وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى [(4)[118]).
فلو كان المقام في حديث الثقلين مقام ذكر الأدلة الشرعية لذكر السنة مع القرآن فيه لأنها الدليل الثاني، ولكن المقام مقام ذكر علم لا يخفى على طالب الحق ليقوم مقام وجود الرسول وحياته في أمته أماناً من الضلال، كما يشعر به تقدمة قوله: « إني أوشك أن أدعى فأجيب »، ولمّا كانت السنّة المطهرة يخفى بعضها لأسباب سياسية تدعو إلى اختلاق أحاديث مكذوبة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وكتمان أحاديث، حتى يصعب التمييز بين الصحيح وغيره، إلا لأعلام الحق، لم تقرن السنة بالكتاب في هذا الحديث، لأنها ليست لها خصيصته في تيسره لطالب الحق والنجاة من مضلاّت الفتن لعامة الناس وجمهورهم بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ما بقي التكليف.
__________
(1) 115]) سورة الأعراف: الآية 158.
(2) 116]) سورة النساء: الآية 80.
(3) 117]) سورة النور: الآية 54.
(4) 118]) سورة النجم: الآيات 3 ـ 4.(1/157)
فلما قرن بالكتاب عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أهل بيته ليكونوا علماً منيراً لطالب الحق عند ظلمات الفتن، دل ذلك على أنهم على الحق لا يفارقونه، فهم مع كتاب الله بمعناه الصحيح، وهم أعلم الأمّة بمعانيه وأكثرهم اهتداء به، وهم مع السنة التي جاء بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لم تكذب عليه ولم تنسخ بالقرآن أو بالسنّة، ولذلك كانوا علماً للحق مع القرآن، مع وجودهم بين الأمة وقيامهم لكشف ظلمات الفتن، وظهور علمهم وفضلهم وزهدهم وورعهم وحرصهم على دين أبيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).(1/158)
فهم لا يخفون على طالب الحق والسلامة من مضلات الفتن، لأنهم معروفون مشهورون بالعلم والفضل، وعندهم لمن أراد التمسك بهم الدلائل النيرة وكشف الشبهات، ولا يلتبسون على طالب الحق ولا يخفون أبداً. لأن أعداءهم لا يغتر بهم طالب الحق والمتمسك بالثقلين وإن كانوا أولي قربى لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). إما لأن ضلالهم ظاهر مكشوف بظهور ظلمهم، وإما أن يكونوا بصورة أهل الدين والعلم ولكنهم يحاربون التمسك بالقرآن وعترة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بدعوى أن السنّة حاكمة على القرآن، وأن العترة خوارج وقادة فتن، وإن الواجب طاعة أعدائهم ملوك الجور ودعاة الفساد، ونحو ذلك مما يصرفون به الناس عن العمل بحديث الثقلين، تشبيهاً عليهم بكلمة حق يراد بها باطل، أو برواية مكذوبة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو بتعظيم لأسلافهم في المذهب المؤسسين لباطلهم، حتى يجعلوا من تكلم فيهم متهماً على الإسلام، فيخوفوا أهل الضعف من اتباع الأدلة الواضحة كحديث الثقلين وغيره. فهؤلاء يكفي طالب الحق في الحذر منهم حديث الثقلين لينجو من فتنتهم وتلبيسهم. فظهر بهذا أن أئمه آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ومن اقتدى بهم منهم، هم أعلام الهدى مع القرآن الكريم، وأن حديث الثقلين جاء لتبيين ما ينجي من مضلاّت الفتن.
وبهذا ظهر أنه لا معنى لتشكيك ابن الأمير، لأن أعلام الحق ظاهرون، فهم ومن حذا حذوهم واقتدى بهم من آل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)هم المقصدون، لا العادلون عن طريقهم التابعون لغيرهم، ولا المفتونون بحب الدنيا المتبعون للشهوات، الذين قد تبين ضلالهم وفسادهم. فالحق واضح لطالب النجاة وإن جادل من جادل.(1/159)
الدلالة الرابعة: في حديث الثقلين هي من حيث قرن عترته أهل بيته بالكتاب في قوله: « ما إن تمسكتم به لن تضلوا » وفسر ذلك بهما في قوله: « كتاب الله وعترتي أهل بيتي » وهذه دلالة واضحة لا تحتاج إلى تطويل. ويعضدها قول الله تعالى: ]فماذا بعد الحق إلا الضلال [(1)[119]).
الدلالة الخامسة: في قوله: « إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » وهذه واضحة، فهذه الجملة في وجه الدلالة لمنازعة الشوكاني. والحديث مشهور بين الأمة، وفي تخريجه كتاب مستقل مطبوع منشور تحت عنوان « حديث الثقلين » فليراجع.
وفي الجزء الأول من « كنز العمال » جملة وافرة في تخريج أحاديث الثقلين في باب الاعتصام بالكتاب والسنّة، وهو في الباب المذكور مفرق في مواضع، فليطالع الباب كله.
وفي « هداية العقول شرح غاية السؤول » جملة وافرة، وهو كتاب مطبوع منشور، وكذلك في « الاعتصام » للإمام القاسم بن محمد. وكذلك في « كرامة الأولياء » وحاشيتها للعلامة الكبير السيد عبدالله بن الهادي الحسن بن يحيى القاسمي أحد كبار علماء القرن الرابع عشر الهجري.
وكذلك في تعليق الشافي لعمي وشيخي السيد العلامة الكبير الحسن بن الحسين الحوثي، أحد كبار علماء القرن الرابع عشر أيضاً. وكذلك في لوامع الأنوار للسيد العلامة الكبير مجد الدين بن محمد المؤيدي، وهو من مشائخي وأنا أروي عنه « لوامع الأنوار »، وكتابه المسمى « الجامعة المهمة » في أسانيد الكتب، وكتابه « التحف » وغير ذلك.
وذكر في « لوامع الأنوار » من أخرج حديث الثقلين من أهل البيت(عليهم السلام)، وقد جمعت أنا جملة في تخريج الحديث بقدر ما تيسر لي من الكتب، نضيفه إلى هذا فنقول:
__________
(1) 119]) سورة يونس: الآية 32.(1/160)