وقد صدر من بعضهم الغلط فزعم أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بنى بميمونة إحدى زوجاته وهو محرم. وبعضهم غلط فقال: إنه أهلّ بالإحرام بالبيداء حين ركب راحلته، لأنه لم يعلم أنه أهلّ قبل ذلك، فكان خبره مبنياً على نفي هو غالط فيه. فكذلك حديث معقل، فإذا كان الحكم بالمهر مبنياً على نفي الدخول، ونفي الدخول إنما هو مبني على اعتقاده، واعتقاده يحتمل الخطأ، كان الرأي عندنا نحن أن نتمسك بالقرآن في لزوم المهر، بأن يذكر ويفرض، أو بأن يدخل الزوج بامرأته، كما قال تعالى: ] وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً [(1)[98]) وقال تعالى: ] لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [(2)[99]) فدل مجموع الآيتين على لزوم المهر بالفرض وبالدخول، كما أفاده في المدخولة قوله تعالى: ] فما استمتعتم به منهنّ فآتوهن أجورهن [. وفي من سمّى لها المهر في العقد قوله تعالى: ] يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [(3)[100]). ويظهر أن هذا هو معنى قول أمير المؤمنين(عليه السلام)الذي رواه البيهقي في السنن ( ج 7 ص 247 ) حيث روى من طرق عن علي(عليه السلام)أنه قال: « لها الميراث ولا صداق لها ».
ثم روى بإسناده عن هشيم: أنبأنا أبو إسحاق الكوفي، عن مزيدة بن جابر أن عليّاً(رضي الله عنه)قال: « لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله ». انتهى. فهو(عليه السلام)لا يعدل عن القرآن اعتماداً على اعتقاد أعرابي لعله غالط فيه.
__________
(1) 98]) سورة النساء: الآية 21.
(2) 99]) سورة البقرة: الآية 236.
(3) 100]) سورة المائدة، الآية: 1.(1/146)

فإن قال قائل: من البعيد أن يقضي لها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بالصداق دون أن يكون سأل عنها، وعلى هذا فالظاهر أن السائل سأله قائلاً: إن زوجها توفي ولم يفرض لها المهر، ولم يدخل بها، فسمعه معقل وسمع الجواب فرواه كما سمعه.
قلنا: هذا ظن وتخمين بلا مستند، والذي يقرب تقديره أنه سئل عن بروع بقول السائل: إن زوجها توفي ولم يفرض لها، فإن عدم الفرض يظهر لمن حضر عقد النكاح، فقد يشكل عليه حكم المهر لكون العادة والغالب ذكر المهر لاهتمام الناس به، فيبعثه ذلك على السؤال.
فإن قال قائل: فذلك دليل على لزوم المهر على كل حال.
قلنا: لا دليل في نفس السؤال، إذ يحتمل أن الوارث هو السائل، لأنه الذي تهمّه القضية.. وأنه قال في سؤاله: في أن زوجها كان قد دخل بها.
فإن قال قائل: فكيف سمع معقل الجواب بلزوم الصداق ولم يسمع السؤال بذكر الدخول ؟
قلنا: من الجائز أن السائل خفض صوته عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)رعاية للأدب، أو للحذر من رفع الصوت المنهي عنه في قول الله تعالى: ] لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض [(1)[101]) وكان معقل مبتعداً قليلاً لاشتغال المكان القريب بغيره من الحاضرين من كبار الصحابة وغيرهم، فلم يسمع معقل السؤال وسمع الجواب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لظهوره لقوته وفصاحته وحسن بيانه، فحمل الجواب على ما يعتقد.
__________
(1) 101]) سورة الحجرات: الآية 2.(1/147)

فهذا تفصيل يوضح أن الجزم بأن السؤال وقع عن غير المدخولة خرص وتخمين بلا مستند. وحينئذ فالأصل عدمه، وكان حمل معقل على الجهل أقرب، وخصوصاً وقد جاءت الرواية تدل على أن أمير المؤمنين(عليه السلام)لم يجهل رواية معقل وإنما تركها لعلة أنه إعرابي مظنّة الخطأ كما فصّلناه، وسواء صحّت هذه الرواية عن علي أو لم تصح فإن احتمالها كاف في إبطال دعوى ابن تيمية عليه الجهل بسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في بروع لأنها دعوى بلا دليل. والحاصل أنّا نسلم أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قضى في بروع بنت واشق بأن لها المهر والميراث وعليها العدة، ولكن لا نسلم أنها غير مدخولة، فلم تثبت فيها سنة مخالفة لما في القرآن. وبطلت دعوى ابن تيمية على علي(عليه السلام).

حديث: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها )
قال مقبل ( ص 41 ): وعلي(رضي الله عنه)عنه هو الذي تزعمون أنه مدينة العلم، وتستدلون على ذلك بحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات.
والجواب: أنه غلط في قوله: تزعمون أنه مدينة العلم، وصواب العبارة أنه باب مدينة العلم. وأما ابن الجوزي فهو ممن ظلم عليّاً(عليه السلام)حقّه، ولم يكن لك أن تركن إلى الذين ظلموا، ولكن قد يخلصك من اسم الركون إليهم أن الركون هو الميل اليسير وميلك إليهم شديد لا يقال له يسير، ولكن دلالة مفهوم الأولى هنا مثل دلالتها في قوله تعالى: ] ولا تقل لهما أف [(1)[102]).
أما علي(عليه السلام)باب مدينة العلم فإليك أيها المطلع ما قاله ابن الأمير في شرح التحفة العلوية المسمى الروضة الندية ( ص 137 ) في شرح قوله:
باب علم المصطفى إن تأته***فهنيئاً لك بالعلم مرياً
__________
(1) 102]) سورة الإسراء: الآية 23.(1/148)

البيت إشارة إلى الحديث المشهور المروي من طرق عن ابن عباس وغيره، ولفظه: عن ابن عباس أنه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ». أخرجه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم، وأخرجه ابن عدي أيضاً والحاكم من حديث جابر، وأخرج الترمذي من حديث علي(عليه السلام)بلفظ: « أنا دار الحكمة وعلي بابها ». فقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي نسخة: منكر.
وقال العلامة الكبير المجتهد محمد بن جرير الطبري: هو في « تهذيب الآثار » في مسند علي(عليه السلام)( ص 104 ) هذا حديث عندنا صحيح سنده. وقال مالك ( كذا في نسخ شرح التحفة وصوابه الحاكم ) في حديث ابن عباس: صحيح الإسناد.
وروى الخطيب في تاريخه عن يحيى بن معين أنه سئل عن حديث ابن عباس قال: هو صحيح.
وقال ابن عدي: إنه موضوع، وأورد ابن الجوزي الحديثين، قلت: بل أوردها كلها ابن الجوزي في موضوعاته عن علي وابن عباس وجابر وقال: فأما حديث علي(رضي الله عنه)فله خمسة طرق ثم قال: وأما حديث ابن عباس فله عشرة طرق، وأورد الطرق عن علي(عليه السلام)وابن عباس رضي الله عنهما، ثم أورد حديث جابر، وذكر له طريقاً من طريق عبد الرزاق، وأفاد أن له طريقاً آخر عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن عبدالله بن عثمان بن خيثم، عن عبد الرحمن بن بهمان قال: سمعت جابر بن عبدالله. انتهى المراد، ومحله في موضوعات ابن الجوزي ( ج 1 ص 349 ).
رجعنا إلى كلام ابن الأمير ( حديث جابر وحديث ابن عباس أو حديث علي وابن عباس ) في الموضوعات.
وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: قد قال ببطلانه أيضاً الذهبي في « الميزان » وغيره، ولم يأتوا في ذلك بعلّة قادحة سوى دعوى الوضع دفعاً بالصدر.(1/149)

وقال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث له طرق كثيرة في مستدرك الحاكم أقل أحوالها أن يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع. وقال: الصواب خلاف قول الحاكم إنه صحيح. وخلاف قول ابن الجوزي: إنه موضوع. بل هو من قسم الحسن، لا يرتقي إلى الصحة ولا ينحط إلى الكذب.
قال الحافظ السيوطي: وقد كنت أجبت بهذا الجواب، ـ أعني أنه من قسم الحسن ـ دهراً إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث علي في « تهذيب الآثار » مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عباس، فاستخرت الله تعالى وجزمت بارتقاء الحديث عن رتبة الحسن إلى رتبة الصحة. انتهى.
قال ابن الأمير: قد قسم أئمة الحديث الصحيح من الأحاديث إلى سبعة أقسام، أحدها: أن ينص إمام ( لعله إمامان ) من أئمة الحديث غير الشيخين على أنه صحيح، وهذا الحديث قد نص إمامان حافظان كبيران الحاكم أبو عبدالله والعلامة محمد بن جرير، الذي قال الخطيب البغدادي في حقّه: كان ابن جرير من الأئمة يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، جمع من العلوم ما لم يشاركه أحد من أهل عصره. وقال في حقه المعروف عندهم بإمام الأئمة ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
وأما الحاكم فهو إمام غير منازع، قال الذهبي في حقه: المحدث الحافظ الكبير إمام المحدثين. وقال الخليل بن عبدالله: هو ثقة واسع العلم، بلغت تصانيفه قريباً من خمسمائة. انتهى.
قال ابن الأمير: فأين يقع ابن الجوزي عند هذين الإمامين ؟ وأين هو من طبقتهما وحفظهما واتقانهما ؟ وهو الذي قال الحافظ الذهبي في حقه نقلاً عن المأموني: إن ابن الجوزي كان كثير الغلط فيما يصنفه، ثم قال الذهبي: قلت له: وهم كثير في مؤلفاته، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحول من كتاب إلى آخر. انتهى.(1/150)

30 / 58
ع
En
A+
A-