والجواب: أن تقليد مقبل لابن تيمية في هذا خطأ، لأن ابن تيمية متّهم في هذا الباب بنصرة مذهبه في تصغير شأن علي(عليه السلام)، وذلك معروف من مذهبه، وجدّه واجتهاده فيه واضح لمن طالع منهاجه. ثم إن كلام ابن تيمية هنا غير صحيح، لأنه بنى على صحة هذه الرواية والتي سمّاها سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في سبيعة قال: حيث أفتاها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأن عدّتها وضع حملها. وهي غير صحيحة بهذا اللفظ، بل هذا اللفظ تفرّد به الزهري وخالف غيره من رواة الحديث. من ذلك رواية البخاري في صحيحه ( ج 6 ص 182 و ص 183 ) من النسخة المجردة عن الشروح في كتاب الطلاق في باب: ] وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [(1)[93]). عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت. انتهى. فالحكم هنا ليس فيه أنها حلت بالوضع، ومن الجائز أن هذه خصوصية لها لما جاءت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وشكت إليه، فكان رحمة من الله لها ببركة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)خاصة بسبيعة.
ولا بعد في ذلك فقد روى مسلم في صحيحه ( ج 6 ص 238 ) في النسخة المستقلة ـ أي ليست في هامش البخاري ـ انتهى. مع شرح النووي بإسناده عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية: ] يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً... ولا يعصينك في معروف [(2)[94]). قالت: كان منه النياحة، قالت: فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إلا آل فلان. انتهى المراد.
__________
(1) 93]) سورة الطلاق: الآية 4.
(2) 94]) سورة الممتحنة: الآية 12.(1/141)

فهذه رخصة ترتبت على الطلب والشكوى خاصة بأم عطية، فدعواهم أن سبيعة حلت بالوضع غير مسلمة، ورواية الزهري أنها حلّت بالوضع مردودة. فيمكن أن عليّاً(عليه السلام)تمسك بالقرآن، لا لجهله بالرواية، بل لأن حديث سبيعة كان خصوصية لها لسبب خاص. كما رووا عن عائشة أنها لم تعتمد حديث فاطمة بنت قيس ( في أن المطلقة ثلاثاً ليس لها سكنى ولا نفقة ) وادّعت أن ذلك كان لسبب خاص، كما تفيده رواية البخاري ( ج 6 ص 173 و ص 184 ).
وكما روي عن بعض أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في رضاع سالم مولى حذيفة من سهلة وهو رجل، وكان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، أنه رخصة خاصة. أخرج مسلم في صحيحه ( ج 10 ص 33 ) أن أم سلمة كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا.(1/142)

فكيف تجاسر ابن تيمية أن يحمل أمير المؤمنين على أنه لم يبلغه حديث سبيعة بناء على رواية الزهري، وبناء على أن تلك ليست خصوصية لسبيعة كما كانت لأم عطية في النوح، وسهلة في رضاع سالم ؟ وقد تبين أن فتواه(عليه السلام)المبنية على التمسك بالقرآن لا يتعين أن سببها الجهل بحديث سبيعة، ولو لم يكن ما ذكرناه في حديث سبيعة راجحاً لكان احتماله وتجويزه كافياً.. لأن ابن تيمية ليس حجة على أمير المؤمنين، بل من الجائز أن يكون راجحاً عند علي(عليه السلام)وإن لم يعرف ابن تيمية رجحانه، بل وإن ظنّه مرجوحاً: ( اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ) آمين(1)
__________
(1) 95]) أقول: لا حاجة إلى ما ذكره المؤلف في دفع تجاسر ابن تيمية الناصبي على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)« باب مدينة علم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)» ودعوى ان تلك خصوصية لسبيعة كما كانت لام عطية في النوح وسهلة في رضاع سالم. وذلك لان قول الوصي(عليه السلام)ليس إلاّ قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي لا ينطق عن الهوى والموارد الثلاث التي ادعى فيها انها لخصوصية المورد كلها باطلة، اما بالنسبة إلى سبيعة فالثابت في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ان العدة ابعد الاجلين كما تدل عليه الروايات الكثيرة ولا يعدل عن الحجة حتى في مورد واحد بالرواية الضعيفة، واما نوح ام عطية فلو فرضنا صحة هذه الرواية فما هو المحرم النوح بالباطل لا مطلق النوح.
…وأما رضاع سالم فلا نسلّم أنه السبب في حليّة دخوله على سهلة، فيما لو صحت الرواية، وذلك لأن الثابت عند المسلمين أن الرضاع المحلل هو ما أنبت اللحم وشد العظم للرضيع الذي لم يتجاوز السنتين، وأما للرجل فلا يصح، ولو صحّ لما حرم رجل على انثى. ولعل خصوصية سالم كانت من مورد آخر لم يصل إلينا. ولمزيد التفصيل راجع كتاب: ( أحاديث ام المؤمنين عائشة للسيد مرتضى العسكري 1 / 379 ـ 383 ).(1/143)

[95]).
قال مقبل ـ حاكياً عن ابن تيمية ـ: وأفتى هو ـ أي علي(عليه السلام)ـ وزيد وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم، بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم تكن قد بلغتهم سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في بروع بنت واشق.
والجواب: إنه لا دليل على أن عليّاً(عليه السلام)جهل في هذه الفتوى ومثلها مما تختلف فيه الأنظار، ففتواه متمسكاً بالقرآن لا دليل فيه على أنه جهل قضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في بروع.
وإليك نص الرواية في بروع بنت واشق لتعرف أن القضية محل نظر واجتهاد، لتعرف أن التمسك بالقرآن أولى إن أنصفت، فنقول وبالله التوفيق: لفظ الرواية في سنن أبي داود بعد السند: عن مشروق، عن عبدالله « في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فقال: لها الصداق كاملاً، وعليها العدة، ولها الميراث، فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قضى به في بروع بنت واشق »(1)[96]).
وهنا لا بد إما أن يكون أمير المؤمنين(عليه السلام) جهل هذا القضاء الذي يزعم معقل أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قضاه(2)[97])، أو يكون معقل جهل الحقيقة في هذا القضاء.
ولا إشكال في جهل معقل وهو غير معروف بفقه ولا كثرة حديث، بل الظاهر أنه لم يرو إلا هذا الحديث، لأن ابن حجر في « تهذيب التهذيب » جعله في ترجمته، فقال: شهد الفتح وكان حامل لواء قومه، وروى عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قصة تزويج بروع بنت واشق. انتهى.
__________
(1) 96]) سنن ابي داود، كتاب النكاح 2 / 237، ح2114.
(2) 97]) وهذا لا يتلاءم مع ما ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)انه قال: « أقضاكم علي ». راجع: فتح الباري 10 / 590، وكشف الخفاء للعجلوني 1 / 184.(1/144)

أي أنه لم يفرض لها ولم يدخل بها. إذا عرفت هذه فمن الواضح أنه لا يجب أن يعامل معاملة أهل الفقه، وأن قوله: « قضى به في بروع بنت واشق ». لا يدل على أن الواقع كذلك، وإنما يدل على اعتقاده أنه كذلك، لأنه بنى ذلك على اعتقاده أن زوج بروع لم يدخل بها، ويحتمل أن معقلاً غلط في هذا وبناه على العادة، وعلى اعتقاده والواقع بخلافه، لأنه لم يرو نفي الدخول عن بروع ولا عن زوجها. والحقيقة إنما هي عندهما دون سائر الناس في الغالب، لأن الدخول قد يكون خفية بحيث لا يخطر بالبال أنه قد وقع أمثاله إذا وقع عقد النكاح، ولم يكن أعرس وأولم وزفت إليه بحيث يشتهر البناء بها. بل كان في أمله وأملها أنه سيكون ذلك قريباً، ولكنه قبل المؤمل ذلك سرى إليها في سواد الليل فدخل بها في بيت أهلها أو في أي مكان، ففي هذه الصورة لا يظهر الدخول، ويكون من نفاه قد بنى على الظاهر، لأنها لم تزف إلى بيته ولم يخطر ببال النافي أنه دخل بها، فإذا توفي قبل الزفاف اعتقد أنه توفي قبل أن يدخل بها، فحمل النافي للدخول على الجهل أمر قريب، لأن مثل هذا مما يجهل، ويكون النفي فيه على الظاهر، فلما سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قضى لها بالمهر، كان في اعتقاد معقل قد قضى لها بالمهر وزوجها لم يدخل بها، فهو صادق في إثبات القضاء بالمهر، ولكنه غالط في نفي الدخول، ومثل هذا الغلط لا يجب أن ينفى عمن ليس من أهل الفقه والتحقيق.(1/145)

29 / 58
ع
En
A+
A-