قلت: فجعلُ نفي التشبيه لله تعالى هو قول الجهمية هو إمّا خطأ، أو جهل بمذهب أهل البيت وشيعتهم من الزيدية والإمامية، ومذهب المعتزلة الذين هم غير الجهمية، كما يفيده تفسيرهما في « الملل والنحل » وكما أن الواقع هو براءتهم من تلك الأباطيل المنسوبة إلى جهم، وإن وافقوه في نفي التشبيه. وإما أن أبا بكر أراد الإرجاف على القاصرين، وإيهام أن نفي التشبيه اما هو مذهب الجهمية الذين يقول في مذهبهم « إنه كفر » ولا إشكال أن بعضه كفر إن صدقت حكاية الشهرستاني عن جهم، لكن جعل أبي بكر نفي التشبيه هو مذهبهم للإرجاف والإرهاب تدليس وتعمية وتلبيس، لأنه يوهم أنه لا يقول به إلا الجهمية. مع ان الحق الواضح أن الله تعالى لا يشبه المخلوقين في صفة تدل على خلقهم، لأنه غير مخلوق بل هو الخالق. فكيف يصح أن يوصف بما هو من دلائل الصنع، وقد قال الله تعالى: ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ ؟ وعلى هذا فالروايات التي تثبت ( أن الله سبحانه له صورة ) ( وأنه خلق آدم على صورته )، ( وأنه يوم القيامة يأتي في صورة فلا يعرفونه بل ينكرونه، ثم يأتي في صورة يعرفونها )، ونحو ذلك مما يظهر أن تأويله تعسف، وأن ردّه أقرب للحق والإنصاف، لأن هذا ليس طريقته طريق المتشابه المعهودة في القرآن والسنّة المعلومة، والفرق واضح عند من نظر وأنصف. فالمتشابه يكون له معنى صحيح سيق الكلام له، نحو: ] وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان [(1)[79]).
__________
(1) 79]) سورة المائدة: الآية 64.(1/131)
فالكلام مسوق لتنزيه الله سبحانه وتعالى عن البخل ومدحه بالعطاء الذي يكون باليد، وينسب إليها في مجرى العادة ولو كان بالأمر من المعطي، فتأويل هذا بأنه على طريقة العرب في نسبة العطاء إلى اليد كما تنسب القيادة إليها حتى أن اليد أثبتت للريح الشمال، لجعلها قائدة للبرد في قول لبيد في قصيدته إحدى المعلقات السبع:
وغداة ريح قد وزعت وقرّة***قد أصبحت بيد الشمال زمامها
وفي كتاب الله تعالى إثبات اليدين على طريقة التعبير العربي في قوله تعالى: ] بين يدي عذاب شديد [(1)[80]) أي قدامه، لأن من يتقدم الرجل يقال فيه بين يديه، فهذا واضح وغير مستنكر إذا ورد في الحديث.
__________
(1) 80]) سورة سبأ: الآية 46.(1/132)
وليس من هذا القبيل حديث: ( إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن )(1)[81]). وحديث ( إنه يأتي يوم القيامة في صورة ينكرونها، فيقولون لست ربنا، ثم يأتي في صورته فيعرفونه ) أو نحو هذا، فالكلام هنا واضح أنه مسوق لإثبات الصورة، فلهذا كان تأويله تعسّفاً وكان ردّه أقرب للحق والإنصاف. وإذا كانوا يضعفون الراوي بالرواية المنكرة عندهم في فضائل علي(عليه السلام) لأنها تدل على تقديمه في الإمامة، أو في الفضل على أبي بكر وعمر، أو لأنها تدل على أن من عاداه فهو عدو الله، لأنه يلزم منها تأثيم معاوية وجعله عدو الله، أو لأنه روى: « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه »(2)[82]) فكيف لا يضعف من يروي ما ينكره العقل، ويخالف ظاهره المعلوم ولا يمكن تأويله إلا بتعسف ؟ مع أنه لا ضرورة تلجئ إلى التعسف الذي لا يرضاه ضمير المنصف.
__________
(1) 81]) عن الحسين بن خالد قال: قلت للرضا(عليه السلام)يابن رسول الله، ان الناس يروون ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: ان الله خلق آدم على صورته، فقال: قاتلهم الله، لقد حذفوا اول الحديث، ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)مرّ برجلين يتسابان، فسمع احدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): « ياعبدالله لا تقل هذا لأخيك، فان الله عزوجل خلق آدم على صورته » ( راجع بحار الانوار 4 / 11، ح 1 ).
(2) 82]) تاريخ الامم والملوك للعلامة الطبري 11 / 357. ولسان الميزان 2 / 1037 وميزان الاعتدال: 5044 و 4149 و 2178.(1/133)
قال أبو بكر في الذب عن أبي هريرة ـ عطفاً على ما مرّ ذكره من قوله: إما معطل جهمي ـ: أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية، التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في إثبات القدر ولم يجد حجّة يؤيد صحة مقالته التي هي كفر وشرك، وكانت حجّته من عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها.(1/134)
والجواب: أنه يعني العدلية الذين يجعلون أفعال العباد منهم ويزعم أنهم ينكرون الأقدار، والتحقيق أنهم لا ينكرون القدر، والقدر بمعنى الكتابة، والمراد تحقيق علم الله سبحانه بما سيكون قبل أن يكون، وهذا فائدة من فوائد كتابته للملائكة، أي أنه إذا وقع ما كان مكتوباً كان وقوعه آية تدل على علم الله سبحانه بما سيكون. والعدلية لا ينكرون أنه تعالى يعلم ما سيكون من المخلوقات التي يخلقها سبحانه، ومن أفعال عباده الطاعة والمعصية وغيرها. وليس معنى القدر القضاء على العباد بأن يعصي. ولا كتابة أن يعصي بمعنى إيجاب أن يعصي. ولكن كتابة أنه سوف يعصي مثلاً. فالقدر لأفعال العباد سابق غير سائق. والمجبرة يظنون أن من لا يجعل القدر سائقاً إلى المعصية فقد أنكر القدر، والواقع خلافه. أما الأحاديث التي تثبت القدر فهي غير منكرة، كحديث: ( وتؤمن بالقدر خيره وشرّه )(1)[83])، وإنما ينكرون نحو رواية: ( محاجة آدم وموسى وفيها أن آدم قال لموسى: كيف تلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني ؟ إلى قوله: فحج آدم موسى )(2)[84])، وليس إنكارها لأجل إثبات القدر، ولكن لجعله عذراً يرفع اللوم عن العاصي، ولا شك في نكارة ذلك. ولو كان عذراً لما كان لآدم أن ينكر على موسى لومه إياه. لأن اللوم الواقع من موسى مقدر، فكيف ينكر عليه ما هو مقدر إذا كان التقدير يدفع اللوم ؟
__________
(1) 83]) صحيح مسلم: كتاب الايمان، الحديث رقم 9.
(2) 84]) صحيح البخاري: كتاب القدر، الحديث رقم 6124 وصحيح مسلم: الحديث رقم 4793.(1/135)