فابحث لتعرف أهؤلاء من جبال الحفظ والاتقان ؟ أم لا تكاد تثبت عدالتهم ؟ وإن اجتهد البخاري فقبلهم فاجتهاده لنفسه، لا يوجب على غيره تقليده. وقد جادل ابن حجر عنهم، وتارة يقول في بعضهم: روى عنه البخاري مقروناً بغيره. ولكن هل ذلك الآخر الذي قرن به هذا ثقة ؟ لعلك لو بحثت لوجدت الأمر في بعضهم بخلاف هذا، ألا ترى أن ابن حجر ذكر في مقدمة شرحه على البخاري ( ص 436 ) كهمس بن المنهال فقال: أخرج له البخاري حديثاً واحداً مقروناً بمحمد بن سواء، ثم ذكر محمد بن سواء في ( ص 438 ) فقال: جميع ما له في البخاري ثلاثة أحاديث، إلى أن قال: والثالث ذكرناه في ترجمة كهمس ابن المنهال ـ يعني أنه مقرون به ـ ؟
كما أن ابن حجر قد أغرق في الذب عن أولئك. وظهر منه بعض التدليس. مثال ذلك: أنه قال في ترجمة عباس بن حسين القنطري ( ص 411 ) ما لفظه: فقد وثقه عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عنه فذكره بخير. انتهى. فقوله: « سألت أبي عنه فذكره بخير » ليس توثيقاً، فإذا كان ابن حجر يجعل مثل هذا توثيقاً فلا يوثق به، كلما قال: وثقه فلان. إذ لا يؤمن أن يكون استنبط التوثيق وخرجه تخريجاً فاسداً.
وكذلك ابن معين، روى عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب ( ج 12 ص 5 ) أنه سئل عن ابن أكيمة وقيل له: إنه لم يرو عنه غير ابن شهاب، فقال: يكفيه قول ابن شهاب: « حدّثني ابن أكيمة » فهذا يدل على ضعف التوثيق الصادر من ابن معين إذا استند فيه إلى مثل هذا، وقد دافع ابن حجر ـ عن أولئك الذين عدّدهم في المقدمة ـ عن كثير منهم بأنه وثقه يحيى بن معين، وكذلك دافع عن كثير منهم بأنه وثقه العجلي، والعجلي قد رووا عنه أنه وثق عمر بن سعد أمير الجيش الذين قتلوا الحسين السبط(عليه السلام). فقال العجلي: تابعي ثقة ذكره، الذهبي في الميزان. فكيف يوثق بتوثيق العجلي ؟(1/126)

وكذلك عبد الواحد بن عبدالله البصري، قال ابن حجر في مقدمة شرحه على البخاري: كان أمير المدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك، ثم قال: وثقه العجلي والدارقطني وغيرهما. انتهى. والذين دافع عنهم ابن حجر بأن يقول: وثقه العجلي والدارقطني، كثير من أولئك الذين ذكرهم في المقدمة.
والحاصل، أن التوثيق ممن لا يعرف مذهبه فيه لا يعتمد. لأن اعتماده تقليد، لاختلاف المذاهب فيه تبعاً لاختلاف العقائد.
يؤكد ذلك ما رواه ابن حجر في تهذيب التهذيب ( ج 10 ص 141 ) في ترجمة مسلم بن يسار: وقال ـ أي البخاري ـ في ترجمة المكي المصبح ـ أي مسلم ابن دينار المكي المصبح ـ: قال ابن عيينة: كان رجلاً صالحاً، وقال ابن سعد: قالوا: كان أرفع عندهم من الحسن، حتى خرج مع ابن الأشعث فوضعه ذلك عند الناس. انتهى. فانظر كيف وضعه عندهم خروجه مع ابن الأشعث على الحجاج ابن يوسف الجبار العنيد ؟
وهذا يلفت النظر إلى التروّي في جرهم وتعديلهم، وإلى معرفة أن من سلم من النصب منهم لم يسلم من آثاره. فلا يقلد أحدهم ولو كان مثل رضوى أو ثبير، وأما إنشاد مقبل للبيتين:
ذهبت دولة أصحاب البدع***ووهى حبلهمُ ثم انقطع
وتداعى بانصرام جمعهم***جمع إبليس الذي كان جمع
فهو تعريض بالزيدية بدلالة السياق، وهو يناسب ما سبق له من التعريض بالعلماء أهل التوقيع على الفتوى، والحكم لله العلي الكبير.

أبو هريرة والحديث(1/127)

قال مقبل: أحاديث التأمين، فذكر حديث أبي هريرة: « إذا أمّن الإمام فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه »(1)[75]) وحديث أبي هريرة أيضاً: في مبادرة الإمام « وإذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين »(2)[76])وحديثاً لأبي هريرة أيضاً: « إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: »(3)[77]) آمين، كل ذلك عن أبي هريرة، ولبعضها طرق عديدة.
والجواب، وبالله التوفيق: إن أبا هريرة عندنا ضعيف فلا يصح علينا الاحتجاج به.
وقد شعر بهذا مقبل فقال في ( ص 30 ): ولعله يقول: إن هذا من رواية أبي هريرة، وسيأتي الجواب عن الكلام في الصحابة رضي الله عنهم.
والجواب: ليس فيما أورده دليل على عصمة أبي هريرة، ولا أنه ثقة. ويأتي الجواب على التفصيل في محله إن شاء الله.
قال مقبل: ولكني أنقل هنا ما ذكره الحاكم في ترجمة أبي هريرة ( ج 3، ص 315 ) من المستدرك، قال(رحمه الله): قال أبو بكر: أظنه ابن خزيمة، وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار، إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرويها خلاف مذهبهم الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله قد نزهه عنه تمويهاً على الرعاع السفل أن أخباره لا تثبت بها الحجّة.
__________
(1) 75]) صحيح البخاري: كتاب الأذان، الحديث رقم 740.
(2) 76]) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، الحديث رقم 626.
(3) 77]) سنن ابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، الحديث رقم 837.(1/128)

والجواب، وبالله التوفيق: إن الجهمية تحتاج إلى التفسير، وقد قال الشهرستاني في الملل والنحل ( ج 1 ص 109 ): الجهمية أصحاب جهم بن صفوان، وهم من الجبرية الخالصة، ظهرت بدعته ـ بترمذ ـ وقتله سالم بن أحوز المازني ـ بمرو ـ في آخر ملك بني أمية، ووافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء، منها قوله: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك يقتضي تشبيهاً، فنفى كونه حياً عالماً، وأثبت كونه قادراً فاعلاً خالقاً، لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق. ومنها إثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل.. إلى آخر ما حكاه، وأظنه غير صحيح، ولكن لعل هذا التفسير هو مطابق لمراد أبي بكر المدافع عن أبي هريرة، وهو يعني أن من نزّه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين فهو جهمي إذا حقق تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين، وردّ ما يخالف ذلك من حديث أبي هريرة تنزيهاً لله سبحانه، أما إذا نفى التشبيه لفظاً بلا اعتقاد ولا تحقيق فهو يثبت التشبيه في المعنى مع نفيه له في اللفظ، فهذا ليس جهمياً. فقول أبي بكر: « خلاف مذهبهم الذي هو كفر » إن أراد به هذا فليس كفراً، وإن أراد به ما نسبه الشهرستاني إلى جهم غير ذلك كنفي كونه تعالى حيّاً عالماً فلا إشكال أن هذا كفر، ولعله قاله الشهرستاني إلزاماً لجهم، وتخريجاً على قوله: « لا يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه ».(1/129)

وقد ظهر أن كتاب الشهرستاني مملوء من الكذب على المخالفين للمؤلف، وكذلك « الفصل » لابن حزم. والمهم أن نبيّن أن تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين ليس كفراً، كيف وقد قال الله تعالى: ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [(1)[78]) ؟ ومقتضى ذلك أن لا يوصف الباري سبحانه بما هو من توابع الحدوث، وما يدل على أن الموصوف به مخلوق، وذلك كالصورة والأعضاء. وليس المراد أنه لا يوصف بأنه حي عالم، وما أظن هذا يقوله من يدّعي الإسلام، وهو يسمع الله تعالى يقول ذلك في كتابه، مع أن إحكامه لما خلق دليل على أنه بكل شيء عليم، بل قد صرح الشهرستاني بأن جهماً أثبت لله علماً وإنما حكى أنه جعله حادثاً. فكيف يقول: لا يقال له عالم وهو يثبت له العلم ؟ هذا بعيد. وكم في حكايات الشهرستاني من خبط، فأبو بكر حيث يجعل تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين هو مذهب الجهمية خاصة، ومن قاله فهو جهمي، فهو دليل على جهل أبي بكر بعقائد أهل البيت وأشياعهم والمعتزلة، فهم مجمعون وجمهور الأمة على تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين. وقد قال الشهرستاني في حكايته عن المعتزلة ( ج 1 ص 55 ) ونفوا الصفات القديمة فقالوا: هو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به. ثم قال: واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كل وجه، جهة ومكاناً، وصورة وجسماً، وتحيّزاً وانتقالاً، وزوالاً وتأثراً، وأوجبوا تأويل الآيات فيه، وسموا هذا النمط توحيد، انتهى المراد.
__________
(1) 78]) سورة الشورى: الآية 11.(1/130)

26 / 58
ع
En
A+
A-