فاجزم بخفض النصب وارفع راية***للحق واكسر شوكة الميزان
الجهة الثانية: أنه إذا لزم ما ذكره من ترك المراسيل لئلا يعتمد على تصحيح من لا يؤمن أن يصحح غير الصحيح، لزم كذلك ترك اعتماد الكتب المسندة لمن لا يعرف الأسانيد. وإنما يطالع فيها الأسانيد قراءة دون معرفة بالرجال ولا بالعلل، وقد مرّ الاحتجاج لهذا بما فيه كفاية، حيث حققنا أن ذلك تقليد.
وأيضاً قوله: « ليس لهم مؤلفات في الجرح والتعديل » فقد قدّمنا أن العمدة في هذا هو معرفة أحاديث الرجل المحدث، فإنها تكشف عن حاله كما قدمنا. وهذا لا يتوقف على وجود مؤلفات في الجرح والتعديل. مع أنه يمكن معرفة بعض ذلك من التاريخ. وفي « الشافي » للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة جملة وافرة في التاريخ وفي تعداد العلماء ومذاهبهم في العقائد، وهي مفيدة جداً في الجرح والتعديل.
أما الأوائل من الزيدية فقد كان لهم كتاب عبد العزيز بن إسحاق، وللآخرين من الزيدية « طبقات الزيدية » تأليف إبراهيم بن القاسم ابن المؤيد بالله محمد ابن الإمام القاسم بن محمد، و « الجداول » للسيد عبدالله ابن الإمام الهادي القاسمي، وكتاب « الصحيح المختار » للسيد محمد بن حسن العجري. والعالم المحقق يمكنه الاستعانة بكتب سائر الأمة، فإنه مع البحث يمكن أن تحصل له فوائد كثيرة بدون تقليد.(1/121)
فلا معنى لإيهام قصور علماء الزيدية وإيهام عدم معرفتهم بالجرح والتعديل، ولا سيما والأمير الحسين مؤلف « الشفاء » يذكر في خطبته أنه قد صحّت له أحاديثه أسانيدها ومتونها، وثبتت عنده عدالة رواتها وضبطهم. فكيف يقال إنه لا يعرف الجرح والتعديل، وهو من أكابر العلماء وأهل الفضل والصدق والأمانة والذكاء والفطنة كما ذلك معروف في مؤلفاته ؟ فكيف يجوز تكذيبه في خبره عن نفسه، والتشكيك في صدقه بمجرد الاستبعاد ؟ ما هذا من فاعله إلا جدل لغرض إلجاء من جادله إلى كتب المخالفين للزيدية. وليس مرادي بهذا أنه يجب تقليده ـ أي الأمير الحسين ـ في التصحيح، وإنما المقصود أن كلامه يدل على أن له معرفة بالجرح والتعديل، وهو خبره عن نفسه، وخبر الثقة مقبول. وذلك يبطل التشكيك في علمهم بالجرح والتعديل، أما هل يقلد الجارح والمعدل والمصحح والمضعف ؟ فهي مسألة ثانية.
وأما العلل فالواضحة منها القادحة تمكن معرفتها بدون نظر في المؤلفات الخاصة بالعلل، بل بقراءة الحديث والممارسة في الأسانيد ومعرفة الرواة.(1/122)
وأما الغامضة فمؤداها ظنون يمكن النزاع في اشتراطها، وقد قال محمد بن إبراهيم الوزير في تنقيح الأنظار ( ج 1 ص 13 ): فإنّ كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء. قال ابن الأمير في شرحه: فليست عندهم شرطاً. انتهى المراد. وعلى هذا فلا يحتاج علماء الزيدية إلى أن يكون لهم مؤلفات في العلل. مع أن كلام محمد بن إبراهيم إنما هو في الرد على من يمنع من النظر في كتب المخالفين وغرضه بيان الحاجة إليها. وهذا الاعتراض إنما يتم على فرض أنه لا سبيل لعلماء الزيدية إلى الجرح والتعديل ومعرفة العلل إلا بالنظر في كتب المخالفين في الجرح والتعديل، وأنهم لا ينظرون فيها، فهم لا يعلمون الجرح والتعديل والعلل بزعمه. وقد أجبنا عن توهم أنه لا سبيل إلى الجرح والتعديل ومعرفة العلل إلا بالنظر في كتب المخالفين في علم الجرح والتعديل وعلم العلل.
ونجيب عن توهم أنهم لا ينظرون في كتب المخالفين بأنه غير صحيح، بل علماؤهم المحققون ينظرون فيها ولكنهم لا يقلدون أهلها، لأنه يمكن منها تحصيل فوائد كثيرة في الجرح والتعديل والعلل، مع التمسك بأصول الزيدية، وتحرير الفكر وتجنب التقليد، والتجربة تدل على ذلك، وإنما ينبغي أن يحذر منها القاصر الذي يخشى عليه التقليد أو الاغترار، لعدم اتقانه للأصول التي تنبني عليها قواعد الجرح والتعديل، والتمييز بين الصحيح وغيره.
قال مقبل: فإذا عرفت أن مؤلفيهم يعتمدون على الضعفاء والوضّاعين، وأن المحدثين يعتمدون على جبال الحفظ والاتقان كسفيان الثوري وأحمد والبخاري، الذين هم في غاية الزهد والورع، ورحم الله القائل إذ يقول:
ذهبت دولة أصحاب البدع***ووهى حبلهمُ ثم انقطع
وتداعى بانصرام جمعهم***جمع إبليس الذي كان جمع(1/123)
والجواب، عن قوله: « إن مؤلفيهم يعتمدون على الضعفاء والوضاعين »: هذا كلامه فيهم، وقد قدّمنا أنه فيه مقلّد، وأن الرواة الذين يضعفهم خصومهم لا يقبل فيهم قول خصومهم بدون حجّة. وبسطنا في ذلك بما يكفي. وإذا كان الروات ثقات عند المعتمدين عليهم فلا يضرهم جرح غيرهم بدون حجّة، والرواة الذين اعتمدهم أئمة الزيدية ثقات عندهم، فأي خلل عليهم من كونهم عند خصومهم ضعفاء أو وضّاعين ؟
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً***وللناس قالٌ بالظنون وقيلُ
وأما قوله: « وإن المحدثين يعتمدون على جبال الحفظ مثل سفيان وأحمد والبخاري ».
فيرد عليه الاستفسار: هل قوله: « مثل »، يعني به تمثيل المحدثين الذين يعتمدون على جبال الحفظ، فمن هم الجبال ؟ وإن كان يعني بقوله « مثل سفيان وأحمد والبخاري » تمثيل جبال الحفظ المعتمد عليهم، فمن المحدثون الذين أراد مدحهم بهذا ؟ ثم إنّ افتخاره هذا لا يفيده، لأن أسانيد الحديث لا تتصل بسلسلة من الجبال يروي جبل عن جبل وهكذا حتى يصل السند إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ولا يكفي وجود جبل أو جبلين في السند مع ضعف بقية رجال السند، بل لو لم يكن في السند إلا ضعيف واحد لصار ضعيفاً، ولم تنفع كثرة الجبال. على أن في أسانيد الزيدية جبال العلم والفضل الذين لا يقاس بهم أحد من خصومهم، ولكنّا نستحيي من ذكرهم في هذا المحل ونجلهم عن المقايسة بينهم وبين البخاري وأحمد.
كتاب جامع البخاري ورواته
وإذ قد زعمت اعتمادهم على جبال الحفظ والاتقان بمعنى أنكم لا تعتمدون على الضعفاء، فأخبرنا: هل جامع البخاري كل أسانيده من طريق سفيان وأمثال سفيان ؟ أم أنت لا تعرف أكثر رجاله فضلاً عن أن تجعلهم جبال الحفظ والاتقان ؟(1/124)
أليس فيهم من لم ينص أحد على توثيقهم ؟ قال الذهبي في الميزان ( ج 3 ص 3 ) في ترجمة مالك بن الحسير: وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم، انتهى المراد.
أليس فيهم عدد كثير مختلف فيهم قد ذكرهم ابن حجر في مقدمة شرحه على البخاري، وهم نحو خمسمائة محدث ؟ ! ! !
منهم: إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي.
ومنهم: أبي بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي.
ومنهم: أسامة بن حفص المدني.
ومنهم: أسباط أبو اليسع.
ومنهم: إسحاق بن إسماعيل بن عبدالله بن أبي فروة.
ومنهم: أشهل بن حاتم الجمحي.
ومنهم: أوس بن عبدالله الربعي أبو الجوزاء.
ومنهم: بسر بن آدم الضرير.
ومنهم: بشر بن شعيب بن أبي حمزة، وبكر بن عمرو المعافري، والحسن بن مدرك السدوسي، وخالد بن عبد الرحمن بن بكير السلمي، وخليفة بن خياط بن خليفة العصفري أبو عمرو البصري، وزكريا بن يحيى بن عمر بن حصين بن حميد بن منهب الطائي أبو السكين، وسليمان بن كثير العبدي، وسنان بن ربيعة البصري الباهلي، وعباس بن الحسين القنطري، وعبدالله بن محمد بن أبي الأسود حميد بن الأسود البصري أبو بكر، وعثمان بن الهيثم بن الجهم المؤذن أبو عمرو البصري، وفضيل بن سليمان النميري أبو سليمان البصري، وفليح ابن سليمان الخزاعي، وكهمس بن المنهال السدوسي البصري، ومحمد بن الحكم المروزي، ومحمد بن زياد بن عبيدالله بن زياد بن الربيع الزيادي، ومحمد بن سواء السدوسي البصري، ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، ومحمد ابن فليح بن سليمان، ومحمد بن كثير العبدي البصري، ومحبوب بن الحسن البصري أبو جعفر، ويحيى بن أبي زكريا الغساني الواسطي أبو مروان، ويحيى بن عباد الضبعي أبو عباد البصري.(1/125)