علماء السنة من هم
فإن قلت: أنا قلّدت ابن المبارك وابن القطان وأتباعه لأنهم علماء السنة.
قلنا: إن السنة المطلوبة حقاً هي سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)التي جاء بها، فعلماء السنة الحقيقيون هم أهل الحق في التمييز بين ما جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وما هو مكذوب عليه، والتمييز بين من يستحق الجرح ومن يستحق التعديل.
ألا ترى أنك لا تعتبر أمثال: جابر الجعفي، ويزيد بن أبي زياد علماء السنّة، لأنهم عندك مخالفون للحق ؟ وحديثهم بعضه عندك غير صحيح فلا يجوز عندك اتباعهم وإن كان عندهم حديث كثير جداً فهو لا يفيد أن يسموا عندك علماء السنة. وكذا عمرو بن عبيد، وإبراهيم بن أبي يحيى المدني وأشباههم، فلا يفيد ما عندهم من الحديث الكثير، وإن ادعوا أنه السنة، فلا يجب عندك تصديق دعواهم، ولا يعتبرون علماء السنة عندك، وهكذا علماء الحديث من الشيعة والمعتزلة، فهم لا يعتبرون عندك علماء السنة يجب اتباعهم لأجل هذا الاسم. فظهر أن أهل السنة هم أهل الحق، وأنك جعلت علماء السنة هم: ابن المبارك، وابن القطان، وأحمد، ويحيى، والبخاري، ومسلم وأتباعهم، لزعمك أنهم أهل الحق، لا لمجرد جمع الحديث والكلام على الرجال. ألا ترى أن الكلام على الرجال بغير حق لا يصير به الرجل من علماء السنة ؟
فتحصل أنك ترى أئمتك هم أهل الحق، وأنك جعلتهم علماء السنة دون غيرهم لهذا المعنى.(1/6)
فنقول لك: من أين علمت أنهم أهل الحق في قولهم: هذا الحديث صحيح، وهذا سقيم، وهذا معلول، وهذا سليم، وهذا الراوي مبتدع لا يقبل حديثه لأنه داعية إلى بدعته وهذا صاحب سنة يوثق به في روايته، وهذا صاحب مناكير متهم في حديثه ؟ مع أنه يجوز عليهم الخطأ في الاعتقاد بأن يجعلوا صاحب الحق مبتدعاً، وهو صاحب السنة المحكمة في الواقع أو الكتاب المحكم، ويجعلوا المبتدع المتمسك بالأحاديث المكذوبة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أو المنسوخة أو المتأولة لحجة على التأويل صحيحة يجعلوا المتمسك بها بدون تأويل صاحب سنة، ويجعلوا الراوي للأحاديث الصحيحة صاحب مناكير، لأنه يروي ما يخالف مذهبهم واعتقادهم، فينكرون حديثه ويتهمونه بالكذب، ويجعلون من يروي الأحاديث المكذوبة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)التي هي المناكير في الحقيقة، ولكنها موافقة لاعتقادهم، فلا ينكرونها، بل يجعلوا راويها ثقة، لأن أحاديثه عندهم مستقيمة ليس فيها ما ينكرون، لأنهم لا ينكرون ما يوافق اعتقادهم، وما نشأوا عليه وتربوا على سماعه فراويه عندهم غير متّهم، بل يوثقونه.
فإن قال مقبل: هذا لا يجوز على يحيى القطان وابن معين وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي والدارقطني وأتباعهم، بل هم أهل الحق.
قلنا: من أين علمت أنهم أهل الحق ؟ أمن كتاب الله ؟ أم من سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فإن قال: من كتاب الله، قلنا: هات الحجّة من كتاب الله، ولن تجدها أبداً. وإن قال: من سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قلنا: ليس ذلك في حديث متواتر معلوم، أو مجمع عليه، أو في حديث أهل البيت وشيعتهم، أو في حديث يثبت بحجة صحيحة بدون تقليد لأسلافك، فمن أين يثبت أن الحق معهم في أصول الحديث وقواعد الجرح والتعديل والتمييز بين الرواية المنكرة وغيرها ؟ ومن أين يعلم أن كل واحد منهم على الحق في ذلك ؟(1/7)
فإن قلت: إن في السنة التي يرويها البخاري ومسلم ما يدل على ذلك.
قلنا: هذا غير صحيح، ولو كان في حديثهم ذلك لما قامت به حجّة، لأنه يكون قبوله مبنياً على أنهم على الحق في تصحيح ما صححوه، وجعلهم أهل الحق مبني على تصحيح ما رووه، وذلك دور لا يصح ما يبنى عليه، لأن مرجوعه إلى الاستدلال على صحة الدعوى بالدعوى، وذلك يدل على أن ليس عندك إلا التقليد الأعمى، فكيف تنزل عن تقليد أولئك إلى تقليد الذهبي وابن الجوزي في قبول أقوالهم في الجرح والتعديل، وهما مبتدعان داعيان إلى بدعتهما ؟ وهب أنك لا تدري من هو المبتدع، ومن العامل بكتاب الله وما جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أفلا يكفيك تجويز الخطأ عليهما، وتجويز أن يكونا مبتدعين داعيين إلى بدعتهما ؟
فإن قلت: لا يجوز ذلك عليهما، رجع السؤال الأول. فقلنا: هل دل على ذلك الكتاب ؟ هل دلت على ذلك السنّة المحكمة الثابتة بدون تقليد لهما ولأسلافهما ؟ أم أنت مقلد في الأصل والفرع ؟ ومع ذلك تعيب التقليد وتحتج لإبطاله بالآية القرآنية، وأنت مرتبك في التقليد.
يا أيها الرجل المعلم غيره***هلا لنفسك كان ذا التعليم
إبدأ بنفسك فانهها عن غيّها***فإذا انتهيت إذاً فأنت حكيم
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله***عار عليك إذا فعلت عظيم(1/8)
تعريضه بالموقعين على فتوى الصيلمي
قال مقبل: « خطر الفتوى بغير علم » وأورد بحثاً في التحذير من ذلك، ثم جعل يعرض بالمفتين يزعم أنهم أفتوا بغير علم ويقول: « وقد يكون سبب الفتوى بغير علم خشية المزاحمة على الدنيا ».
والجواب: أنهم لو كانوا ممن يبيع الدين بالدنيا لعلموا من أين تؤكل الكتف، وليس بينهم وبين الدنيا إلا أن يغيروا المذهب، ويخدموا أغراض الملوك، ويدعوا الناس إلى ما يوافق أهواء الملوك، ويفدوا إليهم، ويخالطوهم ويتقربوا إليهم، فتأتي الأموال الكثيرة والمناصب الدولية العالية. ولكن حاشاهم أن يختاروا ذلك، والله تعالى يقول: ] تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [(1)).
ولقد أفرط مقبل في بحثه هذا، حيث يعرض بالعلماء ويعرض برميهم بالكبر، وبأنهم أشباه إبليس، وبالحسد، وأنهم أشباه أهل الكتاب، والله تعالى يقول: ] ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [(2)) ويقول سبحانه وتعالى: ] وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [(3)) صدق الله العليّ العظيم.
قال مقبل: التحذير من قبول الفتاوى الجائرة بدون دليل من الكتاب والسنّة، قال الله سبحانه حاكياً عن بعض المقلدين على الضلال: ] يوم تقلّب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا [(4)).
ثم بعد ذكر آيات قال مقبل: وأنت إذا تدبّرت هذه الآيات وجدت أن التقليد الأعمى من الشيطان ليصدالناس عن الكتاب والسنّة.
__________
(1) سورة القصص: الآية 83.
(2) سورة ق: الآية 18.
(3) سورة الشعراء: الآية 227.
(4) سورة الأحزاب: الآية 67.(1/9)
أقول: قد بيّنا أنك مقلد تقليداً أعمى، لأنك تقلّد ابن المبارك والبخاري ومسلماً وابن الجوزي والذهبي واضرابهم في قولهم: هذا الحديث صحيح، وهذا سقيم، وقولهم: هذا الراوي مبتدع، وهذا صاحب سنّة، وهذا جيّد الحديث، وهذا منكر الحديث، تقليداً أعمى لا تعتمد فيه على كتاب ولا سنّة، فكيف تعترض على تقليد بتقليد وتدعي لنفسك أنك العالم الوحيد ؟ مع أن « المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور » كما في الحديث(1)[7]) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
مقبل يعيب التقليد وهو مقلد
قال مقبل: سوء عاقبة التقليد الأعمى، قال الله تعالى: ] أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون [(2)[8]) الآيات، ثم أنشد:
ما الفرق بين مقلد في دينه***راض بقائده الجهول الحائر
وبهيمة عمياء قاد زمامها***أعمى على عوج الطريق الجائر
والجواب: قد بيّنا أنك مقلّد تقليداً أعمى، فانظر ما هو الجواب ؟ واسأل نفسك أولاً، لأن المهم في علم الحديث هو التمييز بين الصحيح والسقيم والمعلول والسليم، وأنت في ذلك مقلّد لسادتك البخاري ومسلم والذهبي وأضرابهم، وهكذا تعيب التقليد وأنت مرتبك فيه.
قال مقبل في ( ص 112 ): ومن الذي يقبل من العلماء: قال فلان بدون دليل ؟.
والجواب: أنه من هذا القبيل، تعيب التقليد وأنت في وحل عميق منه يا مقبل ! ومثل هذا إنكارك للمراسيل.
* * *
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب النكاح، الحديث 4818.
(2) سورة الزخرف: الآية 21.(1/10)