والحديث الثاني: السخاء شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا فمن تعلّق بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى النار.
قال ابن حبان: حدّثنا بهذين الحديثين أحمد بن عيسى بن المنتصر بكفرسات البربد، أنبأنا إسماعيل بن عباد الأرسوفي عن الحسين بن علوان في نسخة كتبناها عنه بهذا الإسناد.
قلت: مقتضى تحامله على الشيعة أن لو كان عنده بهذا السند ما ينكره غير هذين الحديثين لجاء به في ترجمته، ولما عدل عنه إلى تلك المراسيل التي أوردها بلا سند منه إلى حسين بن علوان. كما أن مقتضى تحامله على حسين بن علوان وأضرابه أن يذكر أسانيد تلك المراسيل لو كانت صحيحة، لأنه يسند كثيراً في هذا الكتاب من عنده إلى المجروح، فظهر أن تلك المراسيل ضعيفة، وأنه متّهم في إيرادها للتكثير بما لا يصح.
يؤكد هذا أن من تلك المراسيل حديث ( أربع لا يشبعن من أربع ) وقد رواه السيوطي في اللآلئ المصنوعة ( ج 1 ص 21 ) من طريقين ليس فيهما حسين ابن علوان: أحدهما: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة من طريق عبد السلام بن عبد القدوس عن هشام، ثم قال: وقال ابن عدي: هذا الحديث منكر عن هشام، لم يروه غير عبد السلام. وأفاد أن له طريقين عن عبد السلام.
قلت: وكلام ابن عدي هو في الكامل في ترجمة عبد السلام بن عبد القدوس ( ج 5 ص 1967 ) ومن العجيب اعتراض ابن طاهر على ابن عدي، فادعا أنه رواه حسين بن علوان وأنه عنه أشهر، ولو كان أشهر لكان مظنّة أن يطلع عليه ابن عدي، فلعل ابن طاهر اغتر بكلام ابن حبان.(1/91)

ثم ذكر ابن حبان حديثاً واحداً مسنداً فقال: وروى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إذا دخل الخلاء ثم خرج دخلت بعده فلا أرى شيئاً، إلا أني أجد ريح الطيب، فذكرت ذلك له فقال: « يا عائشة، أما علمت أنّا معشر الأنبياء نبتت أجسادنا على أرواح أهل الجنة فما خرج منّا شيء ] كذا ولعله من شيء [ ابتلعته الأرض » قال ابن حبان: أنبأناه علي بن الحسين بن عبد الجبار بنصيبين، حدّثنا الحسن بن السكين البلدي، حدّثنا الحسين بن علوان، عن هشام بن عروة، وليس لهذه الأحاديث كلها أصول إلا حديث السخاء، فإنه يعرف من حديث الأعرج عن أبي هريرة....
قلت: أما السند الأول ففيه أحمد بن عيسى بن المنتصر لم أجد له ترجمة. وأما إسماعيل بن عباد الأرسوفي فترجم له ابن حجر في « لسان الميزان » وهو من زوائده فقال: إسماعيل بن عباد الأرسوفي، روى عن زكريا بن نافع الأرسوفي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر ] يتلونه حق تلاوته [(1)[66]) قال: يتبعونه حق اتباعه. رواه عنه أبو المؤمل العباس بن الفضل الكتاني. قال الدارقطني في الغرائب: باطل وإسماعيل ضعيف، وأُخرج له من هذا الوجه حديث آخر من ( كذا ) مالك بغير واسطة قال: حديث منكر أورده في ترجمة الزهري عن سالم، ومن رواية أبي المؤمل العباس بن حميد بن سفيان الكتاني الأرسوفي عنه، عن يحيى بن المبارك الصنعاني، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رفعه: « شاهد الزور لن تزول قدماه حتى يتبوّأ مقعده من النار » وقال أي الدارقطني: لا يصح عن مالك، وإسماعيل ويحيى ضعيفان، وبه « إمام جائر أيسر من الهرج » الحديث. وقال: هذا منكر وإسناده ضعيف....
فظهر أن سند الحديثين عند ابن حبان غير صحيح إلى حسين بن علوان، فلا يصح الحمل عليه فيهما.
__________
(1) 66]) سورة البقرة: الآية 121.(1/92)

وأما السند الثاني: ففيه علي بن الحسين بن عبد الجبار لم أجد له ترجمة في الميزان، ولا في لسان الميزان، ولا في تهذيب التهذيب، ولا في تاريخ الخطيب، ولا في تذكرة الذهبي، ولا في شيء مما عندي من كتب الجرح والتعديل.
وأما الحسن بن السكين فترجم له الخطيب في تاريخه، ولم يذكر له توثيقاً ولا جرحاً، ولم أجده في غيره وليس من المشاهير. فلا يتعين الحمل على حسين ابن علوان، على فرض أن الحديث موضوع، بل حديث حسين الذي يرويه عنه الإمام أحمد بن عيسى سليم من المناكير. فالحمل على أحد رواة ابن حبان أولى، لأن سنده غير صحيح عن حسين بن علوان. فكيف نجرح حسين؟ بما لم يصح عنه ؟
وترجم له الخطيب في تاريخه ( ج 8 ص 62 ) فذكر أنه روى عن هشام بن عروة، ومحمد بن عجلان، وسليمان الأعمش، وعمرو بن خالد، وأبي نعيم عمر ابن الصبح، والمنكدر بن محمد بن المنكدر، أحاديث منكرة. روى عنه أبو إبراهيم الترجماني، وإسماعيل بن عيسى العطار، وزيد بن إسماعيل الصائغ، وأحمد ابن عبيد بن ناصح، وغيرهم. ثم قال الخطيب: أخبرنا علي بن محمد بن عبدالله المعدل، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدّثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، حدّثنا الحسين بن علوان، حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: « كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)إذا دخل الغائط دخلت على أثره فلا أرى شيئاً، فذكرت ذلك له فقال: يا عائشة أما علمت أن أجسادنا نبتت على أرواح أهل الجنة فما خرج منّا من شيء ابتلعته الأرض »....
فهذا مؤكد لرواية ابن حبان، ولعل نكارته عندهم من حيث تفرده عن هشام، مع كون هشام من كبار المحدثين ومشاهيرهم فمن شأنه أن يشتهر عنه.
والجواب: أنه يمكن أن حسين بن علوان سمعه من هشام في قدمته الثالثة إلى العراق.(1/93)

قال ابن حجر في مقدمة شرحه على البخاري ( ص 448 ) في ترجمة هشام: مجمع على تثبته، إلا أنه في كبره تغير حفظه فتغير حديث من سمع منه في قدمته إلى العراق، قال يعقوب بن شيبة: ثبت ثقة لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده....
قلت: فلا يجرح حسين بما رواه عن هشام لأجل هذا الاحتمال، ويؤكده سلامة حديث حسين، عن أبي خالد، ولو كان يتعمد الكذب لظهر في حديثه، ولعرفه الإمام أحمد بن عيسى بن زيد بن علي الذي يروي عن حسين حديثه كله لا تجد له شيئاً عن غير حسين، فكيف يختاره على غيره وهو كذاب ؟ وكيف يخفى عليه كذبه وهو يتعمد الكذب ؟ بل قد ظهر من اعتماده عليه أنه عنده ثقة، وأنه ليس في حديثه عن أبي خالد الواسطي ما يدل على كذبه فضلاً عن تعمده، مع أن المحدثين قد يوثقون رجلاً في روايته عن رجل مثلاً ويضعفونه في غيرها. وقد ذكر هذا ابن الوزير في تنقيح الأنظار ( ج 1 ص 107 ) من شرح ابن الأمير عليه، وقال ابن الأمير: فهذا كلام حسن وفائدة جليلة.
هذا ولم يذكر الخطيب الأحاديث التي أرسلها ابن حبان عن حسين بن علوان، فتقوّى بذلك أن نسبتها إلى حسين ضعيفة. ولكن الخطيب ذكر بإسناده إلى أحمد بن عبيد بن ناصح، حدّثنا الحسين بن علوان، حدّثني المنكدر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): « كل معروف صدقة »....
وهذا أخرجه البخاري في صحيحه ( ج7 ص79 ) عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.(1/94)

وذكر الخطيب بإسناد قال في أثنائه: حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني: حدّثنا حسين بن علوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: « سبع لم يكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يتركهن في سفر ولا حضر: القارورة، والمشط، والمرآة، والمكحالة، والسواك، والمقصان ( كذا ) والمدرى ». قلت لهشام: المدرى ما باله ؟ قال: حدّثني أبي عن عائشة أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كانت له وفرة إلى شحمة أذنه فكان يحركها بالمدرى. ثم ذكر بإسناد قال في أثنائه: حدّثنا عبيد بن الهيثم بن عبيد الله الأنماطي البغدادي من ساكني حلب سنة 256، حدّثنا الحسين بن علوان الكلبي ببغداد في سنة مائتين، حدّثني عمرو بن خالد الواسطي، عن محمد وزيد ابني علي، عن أبيهما، عن أبيه الحسين قال: « كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع يديه إذا ابتهل كما يستطعم المسكين »، ثم ذكر الخطيب بسنده عن يحيى بن معين تكذيب الحسين بن علوان، وكذا عن عدد من المحدثين، إلا أنه روى بإسناده عن محمد بن إسحاق السراج قال: سمعت أبا يحيى ـ يعني محمد بن عبد الرحيم ـ يقول: كان الحسين بن علوان يحدث عن هشام بن عروة، وعن ابن عجلان أحاديث موضوعة، وهذا أقرب إلى الإنصاف حيث لم يكذبه، ولا كذب ما يرويه عن غير هشام وابن عجلان.
أما الحديث الذي رواه الخطيب عن أحمد بن عبيد بن ناصح، عن حسين ابن علوان، عن المنكدر، فيمكن أن الحمل فيه على أحمد بن عبيد بن ناصح إن كان الحديث منكراً، لأن أحمد بن عبيد قد ترجم له الذهبي في « الميزان » فقال فيه: قال ابن عدي: له مناكير، وقال أبو أحمد الحاكم: لا يتابع على جل حديثه، أدرك يزيد بن هارون، وقد روى عن محمد بن مصعب موعظة الأوزاعي للمنصور وفيها مناكير. وقال ابن عدي: هو عندي من أهل الصدق، مع هذا كله ويحدث بمناكير... انتهى.(1/95)

19 / 58
ع
En
A+
A-