أقول: هذا الناصبي لا يقبل منه جرح في شيعي، وقد قال ابن حجر نفسه في مقدمة شرحه على البخاري ( ص 388 ): الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي، فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان ـ إلى أن قال ـ: ولا يسمع قول مبتدع في مبتدع.
قلت: وإذا كان لا يقبل قول مبتدع في مبتدع، فبالأولى أن لا يقبل قول مبتدع فيمن هو على الحق الذي جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). وسواء كان جابر على الحق أم مبتدعاً فلا يقبل فيه قول الجوزجاني. فأعجب لابن حجر حيث أورد كلامه في جابر، وأعرف بذلك أنه يريد تكثير الجرح، وإن لم يكن صحيحاً ما كثّر به، كما أن كلامه يفيد ما كررناه من أنه لا يقبل جرح العدو في عدوّه.
قال: وقال الحميدي عن سفيان ـ أي ابن عيينة ـ: سمعت رجلاً سأل جابراً الجعفي عن قوله: ] فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي [(1)[63]) قال: لم يجئ تأويلها بعد. قال سفيان: كذب، قلت: ما أراد بهذا ؟ قال: الرافضة تقول: إن عليّاً في السماء لا يخرج من يخرج من ولده حتى ينادي من السماء اخرجوا مع فلان. يقول جابر: هذا تأويل هذا.
__________
(1) 63]) سورة يوسف: الآية 80.(1/86)

قلت: يحتمل أن هذا التفسير لكلامه إنما هو من سوء الظن، وأنه لا يقول بما نسب هنا إلى الرافضة. وإنما جرى على طريقة النيسابوري، المفسر المشهور الذي طبع تفسيره في هامش تفسير ابن جرير، فإنه يفسّر فيذكر المعنى ويسميه التنزيل، ثم يقول التأويل ويذكر معاني تتعلق بالمعنى الحقيقي للمشابهة والمناسبة، كما يتعلق تأويل الرؤيا بالرؤيا، وقد قال يوسف(عليه السلام): ] ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث [(1)[64]) ولم يقل هنا من تأويل الأحلام. وروي أن الرجلين الذين دخلا معه السجن وادّعيا الرؤيا فقال: ] أما أحدكما فيسقي ربّه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه [(2)[65]). إنما ادّعيا الرؤيا ـ أو أحدهما ـ دعوى غير صادقة فعبر على الحديث. ومن هذا الباب التفاؤل بالكلمة الطيبة لرجاء حصول ما يناسبها.
__________
(1) 64]) سورة يوسف: الآية 101.
(2) 65]) سورة يوسف: الآية 41.(1/87)

وعلى هذا فلا وجه لتكذيب جابر، ولا حاجة لتفسير قوله بقول الرافضة، لأنه يحتمل أنه لم ينكر المعنى الأصلي، وإنما أراد أن المعنى المقيس على المعنى الأصلي لم يأت بعد، وذلك أن ابن يعقوب في تلك الحالة قعد عن العودة إلى أبيه، مع أن ذلك مخالف لغرض أبيه من حيث أنه يحزنه لأجل العاطفة الأبوية، فكانت صورة ذلك القعود صورة غير مرضية ولكن لها مبرر في الواقع، وهو أنه يحزنه إذا رجع وليس أخوه معه، وقد عاهد أباه ليأتينّه به إلا أن يحاط به، فكان انتظاره ليعمل برأي أبيه، إما أن يرى أبوه له أن ينتظر خروج أخيه وإطلاقه من يد يوسف، وإما أن يرى له أبوه أن يعود بناء على أنه قد عجز عن استخراجه وآيس من ذلك وصدقه أبوه فيه، أو بناء على وحي من الله ينزل على أبيه أن الكبير من بنيه المنتظر معذور لم يقصر في حفظ أخيه، وليس عليه أن يبقى منتظراً. فكذلك ترك القيام لجهاد الظالمين في حال كثرة الجور، وظهور الفساد، وغلبة الظالمين، يكون صورته صورة منكرة، لأن الله تعالى أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في الله حق جهاده، ولكنه في تلك الحال للقعود مبرر، وهو أن علماء آل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قليل مستضعفون في الأرض، وأعداؤهم الأموية في قوة سلطانهم، وقد جاء في الرواية أنهم يملكون ألف شهر، فكان انتظار هذا الأجل لقيام الثورة في أوانها أولى من تعرض أعلام العترة للهلكة، بحيث يضيع علمهم الذي ورثوه عن آبائهم قبل أن يكثر حملته من ذرياتهم ومن شيعتهم. والله أعلم.
ومن ذلك قوله ـ أي ابن حجر ـ: وقال شبابة عن ورقاء عن جابر: دخلت على أبي جعفر الباقر فسقاني في قعب حسائي ( كذا ) حفظت به أربعين ألفاً.(1/88)

قلت: ولا وجه للجرح بهذا القول، ولكن شدّة حرص القوم جعلتهم يتصيّدون له أسباب الجرح، ويفسرون كلامه بالمعاني الفاسدة استمراراً في الصراع. وهذا الكلام إن صح عن جابر يحتمل أنه أراد أن ذلك الحساء الذي شربه كان سبب تعلمه، وكانت فيه بركة بعثت فيه الرغبة للتعلم من الباقر والحبّ له، والرغبة في ملازمته، حتى حفظ به أي بسبب ذلك أربعين ألف حديث.
ومن ذلك قوله: وقال يحيى بن يعلى: سمعت زائدة يقول: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت: اعتقاد القوم في جابر هذا الاعتقاد وشبهه هو الذي جعلهم يشنون عليه الغارات ويتعصبون عليه، وجعل الجرح فيه يربو بطول المدة، فقد كان قليلاً في ترجمته التي في كتاب ابن أبي حاتم وكتاب « التاريخ الكبير » للبخاري، فلم يأت زمان صاحب « تهذيب الكمال » إلا وقد كثر وتولدت أقاويل هامة لو كانت صحيحة لكانت مظنّة أن تذكر في الكتابين، ولم يأت زمان ابن حجر إلا وقد زاد على ما في « تهذيب الكمال » للمزي، لأن العداوة والبغضاء تبعث على التقوّل.
ولذلك تقوّل مقبل على أهل صعدة بما مرّ ذكره، ومن التقوّل أن يدّعوا أنه يشتم الصحابة بعبارة التعميم لأجل رواية رواها، تستلزم ظنّهم شتم بعض، كما سبق ذكره عن ابن معين في مينا ـ وكما سبق لمقبل في ذم الزيدية في كتابه الرياض ( ص 20 ) ـ حيث قال: على أنهم يقدحون في الصحابة... الخ.
والرواية عن يحيى بن يعلى مرسلة، ولا يؤمن أنها من طريق تلميذه الجوزجاني الناصبي المشهور، ولا شك أنه متّهم في الشيعة.
ومن ذلك أقاويل تشبه ما مضى، وقد تضمن الجواب الماضي ما يغني، ومن ذلك قول ابن حبان: كان سبئياً من أصحاب عبدالله بن سبأ.(1/89)

قلت: هذا من تعصب ابن حبان، ومن رأى إفراطه في جرح أبي حنيفة عرف أنه لا يعتد بكلامه، وكلمته هذه في جابر لم أجدها لأحد سواه على كثرة أقاويلهم، وابن حبان متأخّر، ولو كان كلامه صحيحاً لاشتهر من قبله وخصوصاً في أهل نحلته الحراص على جرح جابر وأضرابه، حتى شبههم شعبة بالمجانين فيما رواه ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ( ج 1 ص 136 ) فقال: حدّثنا محمد ابن يحيى، حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو داود عن شعبة قال: لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذين يقعون في جابر الجعفي.
ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية للذب عن هذا المحدث العظيم، الذي هو جبل من جبال العلم وركن من أركان الحديث.

3 ـ الحسين بن علوان:
وأما الحسين بن علوان، فإن حديثه عن أبي خالد الواسطي من رواية الإمام أحمد بن عيسى بن زيد حديث طيب سليم من المناكير. والقوم جرّحوه نظراً إلى ما روي عنه عن هشام بن عروة والأعمش، ولعل ذلك مكذوب عليه، توصلاً إلى جرحه، وليس عندنا من ذلك شيء.
وأول ترجمته في كتاب ابن أبي حاتم ( ج 3 ص 61 ) روى عن هشام بن عروة، ولم يذكر غيره.
وأول ترجمته في « الميزان » عن الأعمش وهشام بن عروة.
وأول ترجمته في كتاب « المجروحين » لابن حبان حسين بن علوان من أهل الكوفة، كان يضع الحديث على هشام وغيره من الثقات، ثم ذكر أحاديث عن حسين بن علوان عن هشام احتج بها على أنه يضع الحديث، وأكثرها أرسلها عن حسين بن علوان، ولم يسند منها إلا حديثين عن هشام عن أبيه عن عائشة.
أحدهما: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقّت للنفساء أربعين يوماً إلاّ أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي ولا يقربها زوجها في الأربعين.(1/90)

18 / 58
ع
En
A+
A-