الأول: ان أصل الكلام هنا أنه لا يقبل الجرح إلا مبين السبب، وهذا الذي ذكره المصنف ـ أي ابن الوزير ـ من اختلاف العقائد بحث آخر، فانه لا يقبل الجرح من المتعافين(1)[61]) مجملاً ولا مفسراً لمانع العداوة ـ إلى أن قال ابن الأمير في ( ص 147 ) ـ قلت: ومن أمثلة القدح بالمخالفة في الاعتقاد قول بعضهم في البخاري: إنه تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ ـ أي ما نسب إليه من أنه يقول لفظه بالقرآن مخلوق ـ انتهى المراد.
وقالا في مسألة الترجيح بين الجرح والتعديل في ( ص 164 ) والتي قبلها: ( فإما أن يكون الجرح مطلقاً ) عن بيان السبب ( أو ) يكون ( مبين السبب إن كان مطلقاً لم نحكم بصحته ) وإن أورث ريبة وتوقفاً ( وبحثنا عن حال المجروحين فإن تبين ) بالبحث ( وترجح أحد الأمرين حكمنا به وإلا وقفنا في حاله كما تقدم ) لابن الصلاح ( لأن الجارح هنا وإن كان صدقه أي الجارح ( أرجح ) فإنه لا ينافي توقفنا ( فلم ندر ما الذي ادعى ) من جرحه ( حتى نعلم صدقه فيه ) لأنه أتى بمجمل يحتمل توقفنا فيه تصديقاً وتكذيباً انتهى.
قلت: هذا الكلام المراد به إذا كان الجرح سالماً من العلة التي توجب ردّه مطلقاً أم مفسراً كما أفاده كلاً منهما الذي نقلته آنفاً ـ.
__________
(1) 61]) هكذا في الأصل ولعلها « المخالفين » ( المحقق ).(1/81)

ثم قالا في ( ص 164 ): ( وأما إن بيّن ) الجارح ( السبب ) الذي جرح به ( نظرنا في ذلك السبب وفي العدل الذي ادّعى عليه، ونظرنا أيّ الجوائز ) الأمور الجائز وقوعها في حقه ( أقرب ) لنحكم به، فإن اقتضت القرائن والإمارات والعادة والحالة من العداوة ونحوها ( أن الجارح واهم في جرحه ) بجعله ما ليس بجارح جرحاً ( أو كاذب ) في جرحه ( أو غاضب ) على من جرحه ( رجح له الغضب عند سورته ) بفتح المهملة وسكون الواو. شدته ( قرينة ضعيفة فقال بمقتضاها، ونحو ذلك قدمنا التعديل ) لعدم نهوض القادح على رفعه. انتهى المراد.
وفي تاريخ البخاري الكبير في ترجمة جابر الجعفي ( ج 2 ص 210 ): قال لي بيان: سمعت يحيى بن سعيد يقول: تركنا جابراً قبل أن يقدم علينا الثوري، قلت: قد أفاد الذهبي في الميزان أن يحيى بن سعيد متعنّت في الرجال.
قلت: فلا عبرة بتركه له، وهذا من الذهبي بمنزلة الإقرار لأنه من أئمته، ذكر هذا في ( ج 1 ص 437 ) من الميزان في ترجمة سيف بن سليمان ـ فقال: وحدّث يحيى القطان مع تعنّته عن سيف ـ انتهى.
وقال البخاري في ترجمة جابر الجعفي في التاريخ: وقال لي أبو سعيد الحداد: سمعت يحيى بن سعيد عن أسماعيل بن أبي خالد قال: قال الشعبي: يا جابر، لا تموت حتى تكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال إسماعيل: ما مضت الأيام والليالي حتى اتّهم بالكذب. انتهى.(1/82)

قلت: الشعبي لا يعلم الغيب، وليس كاهناً يخبر عن المستقبل على سبيل القطع به، وإنما يعني الظن، ولعله نظر إلى مراسيل جابر الجعفي، وظنّه يتساهل في قبولها، فمن هنا ظنّ أنه سيكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك حيث يقول في الإرسال: « قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)». فيكون قد كذب عليه إذا أرسل معتمداً على رواية غير صحيحة وهو يظنّها صحيحة، وليس في كلام الشعبي هذا أنه يكذب متعمداً، وكذا قول إسماعيل إن صح عنه: ما مضت الأيام والليالي حتى اتّهم بالكذب. ليس فيه أنه اتّهم بتعمده، مع أن المتهِم مجهول، ولا يبعد أن يكون من خصومه المبغضين له فلا يضر اتّهامه له، لأنه قد يظن الصدق كذباً، وقد يظن الخطأ عمداً، فلا نلتفت إليه لما قدمناه.
هذا، وأما ما حكاه ابن حجر في « تهذيب التهذيب » غير ما قد ذكره ابن أبي حاتم وما حكيته عن تاريخ البخاري فهي مراسيل، فلا يصح اعتمادها، مع أن في بعضهانظراً من جهة أخرى، فمن ذلك قوله: وقال معلى بن منصور: وقال لي أبو عوانة: كان سفيان وشعبة ينهياني ( كذا ) عن جابر الجعفي، وكنت أدخل عليه فأقول: من كان عندك ؟ فيقول: شعبة وسفيان. قلت: معلى بن منصور فيه كلام في ميزان الذهبي وقد دافع عنه بعضهم، وذكر عن أحمد العجلي أنه قال: ثقة صاحب سنّة. انتهى المراد.
ومعنى أنه صاحب سنّة في اصطلاحهم أنه عثماني على ضد مذهب الشيعة، ولذلك فهو متهم فيهم.
ومنها: وقال الدوري: عن ابن معين، لم يدع جابراً ممن رآه إلا زائدة، وكان جابر كذاباً.
قلت: من رآه أعرف به، فإذا لم يتركوه فهو قرينة لصدقه، لأنهم لا يأخذون عمّن هو عندهم كذّاب في روايته عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).. وأما زائدة فهو عثماني ضد الشيعي، فهو متهم بالعداوة المذهبية.(1/83)

ومنها: قال يحيى بن يعلى: قيل لزائدة: ثلاثة لم لا تروي عنهم: ابن أبي ليلى، وجابر الجعفي والكلبي ؟ قال: أما الجعفري فكان والله كذاباً يؤمن بالرجعة.
قلت: كثر عن زائدة الجرح في الشيعة، فظهر تحامله عليهم. يؤكد ذلك أنه ذكر ابن حجر في ترجمته: قال أبو داود الطيالسي وسفيان بن عيينة: حدّثنا زائدة ابن قدامة وكان لا يحدث قدرياً ولا صاحب بدعة. فقوله: قدرياً، يشعر بأنه غير مجبري، لأنهم يسمون العدلية قدرية.
وقال أبو حاتم: كان ثقة صاحب سنّة ـ إلى أن قال ـ وقال ـ أي ابن سعد: كان ثقة صاحب سنّة ـ إلى أن قال ـ: وقال أبو نعيم: كان زائدة لا يكلم أحداً حتى يمتحنه، فأتاه وكيع فلم يحدثه... انتهى. قلت: كان وكيع شيعياً. فظهر أن زائدة عثماني كما لا يخفى على من عرف اصطلاحهم، مع أن اعتقاده في جابر أنه يؤمن بالرجعة لعله الباعث له على تكذيبه ـ كما قال يحيى بن معين فيمن سب الذين سماهم من الصحابة: فهو دجّال لا يكتب عنه ـ وقد مرّ ذكره. فمعنى أنه كذّاب أنه يقول بالرجعة.
ويؤكد هذا ما رواه ابن حجر في ترجمته عن ابن عدي من قوله فيه: وعامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة.
وفي سنن الدارقطني ( ج 1 ص 379 ): حدّثنا محمد بن يحيى بن مرداس، حدّثنا أبو داود، سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يتكلم في جابر لحديثه إنما تكلم فيه لرأيه... انتهى.
نعم، أما القول بالرجعة فمعناه القول بأن عليّاً(عليه السلام) يرجع إلى الدنيا، وهذا لا يوجب الجرح. وأما تفسير القول بالرجعة بأكثر مما تحتمله كلمة الرجعة فهو مردود. وإنما هو تحامل من خصوم القائلين بالرجعة على خصومهم.
ومن ذلك قول ابن حجر: وقال سلام بن أبي مطيع: قال لي جابر الجعفي: عندي خمسون ألف باب من العلم ما حدّثت به أحداً، فأتيت أيوب فذكرت هذا له فقال: أما الآن فهو كذاب.(1/84)

قلت: سلام بن أبي مطيع فيه كلام، من جملته أنه بصري، وأنه صاحب سنّة، قال فيه: وقال أبو داود: هو القائل لأن ألقى الله بصحيفة الحجّاج أحب إليّ من أن ألقاه بصحيفة عمرو بن عبيد.
وفيه: وقال الحاكم: منسوب إلى الغفلة وسوء الحفظ، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به... انتهى.
فقد ظهر من هذا أنه متشدد في السنّة بزعمهم في معنى السنّة، شديد على المخالفين له.
وقد قال مقبل في الرياض ( ص 13 ): والصراع قديم بين أهل السنّة والشيعة المبتدعة، وجابر عندهم من الشيعة المبتدعة فهم خصومه، فلا يقبل فيه جرحهم له.
ومن ذلك قوله ـ أي ابن حجر ـ في تهذيب التهذيب: وقال جرير بن عبد الحميد عن ثعلبة: أردت جابراً الجعفي فقال لي ليث بن سليم: لا تأته فإنه كذّاب. قال جرير: لا أستحل أن أروي عنه، كان يؤمن بالرجعة(1)[62]).
قلت: قد ظهر من جرير التحامل عليه فلا يقبل فيه جرحه، وثعلبة ليس من المشاهير، ولو صح قول ليث فهو يحتمل أنه كذبه لاعتقاده القول بالرجعة وهو عنده كذب، وهم يغضبون لهذا القول، وقد بالغوا في تشنيع هذا القول، حتى زعموا أن الشافعي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت من جابر الجعفي كلاماً فبادرت ـ خفت ـ أن يقع علينا السقف، قال سفيان: كان يؤمن بالرجعة.
قلت: بمثل هذا الإرجاف يغتر المقلدون، فأما من حرر فكره فإنه يعرف أن القول بالرجعة بناء على رواية يظن القائل بها أنها صحيحة واطمأنت بها نفسه، فالقول بالرجعة على هذا لا يوجب سقوط السقف، وهل كانوا يفرون إذا سمعوا لعن علي(عليه السلام)على منابر الأموية خشية أن يسقط السقف ؟
ومن ذلك قول ابن حجر: وقال إبراهيم الجوزجاني كذّاب.
__________
(1) 62]) تهذيب التهذيب 2: 46 ـ 51 ترجمة جابر الجعفي ط. دائرة المعارف النظامية ـ الهند.(1/85)

17 / 58
ع
En
A+
A-