المبحث الخامس تنقيصه لكتب الزيدية ورواتهم والرد عليه
قال مقبل: « وهب أيها الطاعن في كتب السنّة أننا تركناها لقولك، فأين يتاه بنا ؟ أنرجع إلى كتب أهل الكلام ؟ ثم قال ( ص 20 ): أم تريد منّا أن نرجع إلى كتب الرافضة التي لا أسانيد لها ؟ فهي كما يقول بعض العلماء تشبه كتب اليهود والنصارى حيث أنها لا أسانيد لها... ».
الجواب: هذا باطل من ثلاث جهات: تسميتهم رافضة عموماً، ونفي الأسانيد عن كتبهم عموماً، وتصديق عدوهم في ذلك.
قال مقبل في ( ص 20 ): أم تريد منّا أن نرجع إلى كتب الزيدية المقطعة الأسانيد، وإن أسندوا فغالب أسانيدهم تدور على الضعفاء والكاذبين.
الجواب: إن الكتب قد انتشرت، فيمكن أهل العلم والإنصاف الاطلاع على كثير من كتب الفرق المختلفة. وهؤلاء الذين تسميهم رافضة تقليداً لشيعة النواصب لهم كتب فيها أسانيد كثيرة، وعندهم جرح وتعديل، وقد وصل بعض كتبهم اليمن، من ذلك « وسائل الشيعة في علوم الشريعة » وذيله، وكتاب « أمالي الصدوق »(1)[56]) وكذلك كتب الزيدية فيها كثير من المسند في مجموع زيد بن علي، والصحيفة للإمام علي بن موسى الرضا، وأمالي أحمد بن عيسى، وأمالي أبي طالب، وأمالي المؤيد بالله، وأمالي المرشد لله، وفي كتب الهادي أحاديث مسندة، وفي البساط للناصر أحاديث مسندة، ويمكن معرفة رجالهم بمعرفة أحاديثهم وعرضها على المعلوم، فإن وافقت عرف بذلك أنهم ثقات، وإن خالفت كان للمخالفة حكمها من جرح أو تضعيف أو غير ذلك، كما لا يخفى على من أنصف.
__________
(1) 56]) بل هناك آلاف الكتب المسندة المعتبرة في مختلف العلوم مودعة في المكتبات العامة والخاصة في شتى أنحاء العالم.(1/66)
قال مقبل: « وإن أسندوا فغالب أسانيدهم تدور على الضعفاء والكاذبين، مثل: أبي خالد عمرو بن خالد الواسطي، وجابر بن يزيد الجعفي، والحسين بن علوان، وعمرو بن شمر، وعبد السلام بن صالح أبو ( كذا ) الصلت الهروي، وعلي ابن مهدي القاضي، وعامر بن سليمان الطائر ( كذا )، وداود بن سليمان القزويني، والحارث بن عبدالله الهمداني، والحسين بن عبدالله بن ضميرة، وإسحاق بن محمد الأحمر، الذي ادّعى اُلوهية علي، وأبي هارون عمارة بن جوين العبدي، وكادح ابن جعفر. وحسين بن عبدالله بن عباس، والأشج بن أبي الدنيا، وهو عثمان بن خطاب.
كتبت هذه الأسماء أغلبها من تنقيح الأنظار ( ج 1 ص 320 ). ثمانية، وبعضها من ترجمة علي بن موسى الرضا(عليه السلام)وبعضها من ذاكرتي ».
والجواب، وبالله التوفيق: ان الكتب لا تعاب برواية واحد من رواتها ما لم يكن راوياً للكتاب كله متفرداً به، وفي الراوي سبب ضعف، وليس في كتب الزيدية ما راويه واحد إلا مجموع زيد بن علي وصحيفة علي بن موسى ويأتي الكلام فيهما، فأما بقية كتبهم فليست من طريق هؤلاء الذين عدهم وحدهم، بل من غيرها ـ وبعضها يكون فيه مما رواه بعض هؤلاء ـ ومن غيره، فلا يصلح طرحها على فرض صدق الجرح كلها كما تريد. ولكن ليس صدقاً كله بل، لا يبعد أنه كذب كله من خصومهم، وقبوله من خصومهم تقليد وتصديق للخصم في خصمه بغير حجّة صحيحة، وذلك ميل عن الإنصاف.
عرض رجال الشيعة على ميزان الذهبي ليس من الإنصاف
قال مقبل: « ومن يرد معرفة رجال الشيعة فعليه أن يقرأ في كتبهم التي تذكر فيها الأسانيد، ثم يعرض أسانيدها على « ميزان الاعتدال » فإنه يرى العجب العجاب والكذب الصراح ».(1/67)
والجواب: أما قراءة كتبهم، فهي تفيد من لم يعمه التعصب، فإنه كما قلنا: إذا اطلع على أسانيدهم أمكنه عرض حديثهم على ما قد علمه الحق من الكتاب والسنّة. فإن وجدها مخالفة تبين له حكم رجالها بقدر المخالفة من جرح أو تضعيف أو غيره، وإن وجدها موافقة للمعلوم فما يضرهم ذم خصومهم.
أما عرض رجال الشيعة على ميزان الذهبي فليس من الإنصاف، لأنه هو وأهل مذهبه خصوم الشيعة. وليس من الإنصاف أن يُقبل من الخصم جرحه في خصمه. وقد قال الذهبي نفسه في « الميزان » في ترجمة عبدالله بن سليمان بن الأشعث: لا يسمع قول الأعداء بعضهم في بعض. وقال في ترجمة محمد بن إسحاق ابن يحيى ابن منده: أقذع الحافظ أبو نعيم في جرحه لما بينهما من الوحشة، ثم حكى كلام أبي نعيم في آخر الترجمة، ثم قال: قلت: البلاء بينهما هو الاعتقاد، يعني الخلاف في العقائد.
وقال في ترجمة أحمد بن عبدالله الحافظ أبي نعيم ما لفظه: وكلام ابن منده في أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته، ولا أقبل قول كل منهما في الآخر ـ ثم قال ـ: قلت: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس. انتهى المراد.
قلت: هذا غير خاص بالأقران، لأن عداوة المذهب تكون بين المتباعدين في الزمان، وإذا كانت العداوة تمنع قبول جرح العدو لعدوه من الأقران، فكذلك من غير الأقران، لأن العلّة العداوة، فلا يقبل جرحهم لرجل من الشيعة إلا بحجّة بيّنة صحيحة.(1/68)
هذا، وقد جعل الذهبي معظم الجرح في « الميزان » مبنياً على أقاويل أسلافه الذين ذكرهم في خطبة الميزان، فجعل أولهم يحيى بن سعيد القطان، الذي تكلم في الإمام الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام)وتكلم في عبدالله بن محمد بن عقيل، وتكلم في إسرائيل بن يونس، وجعفر بن سليمان الضبعي، وقيس بن الربيع، ومجالد بن سعيد، وغيرهم من الشيعة.
قال الذهبي في الميزان في خطبته: فأول من جمع كلامه في ذلك ( يعني الجرح والتعديل ) الإمام الذي قال فيه أحمد بن حنبل: « ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطان » وتكلم في ذاك بعده تلامذته: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن علي الفلاس، وأبو خيثمة وتلامذتهم: كأبي زرعة، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وأبي إسحاق الجوزجاني السعدي، وخلق، ومن بعدهم مثل: النسائي، وابن خزيمة، والترمذي، والدولابي، والعقيلي... الخ.(1/69)
وبعض الجرح في « الميزان » يكون فيه ذكر أحاديث يذكر أن المجروح رواها أو كلمات تنسب إلى المجروح، فأما ما رواه من كلام أسلافه فيحتاج إلى صحّة سببه، وصحّة كونه سبباً صحيحاً للجرح. وأما ما قاله بسبب روايات أو كلمات تنسب إلى المجروح، فتحتاج إلى ( إثبات )(1)[57]) صحتها عن المجروح، لأن بعضها قد يكون مكذوباً على المجروح افتراه بعض خصومه بسبب عداوة المذهب، وبعد صحتها عنه ينظر في كونها سبباً جارحاً، لأن بعض الروايات والكلمات قد يكون جارحاً عند قوم وهو عند غيرهم غير جارح كما مر. وعلى هذه الطريقة، لا بأس بالنظر فيه وفي سائر كتب الجرح والتعديل. وهذا كله للتحرر من التقليد والتبعية فيما لا يصح أصله عند الباحث لو عرف أصله، والتبعية في جرح ليس له أصل إلا عداوة المذهب. ألا ترى أن بعضهم ـ كزائدة ـ جرح في بعض الزيدية بأنه يرى السيف. أي الخروج على السلطان الجائر، وبعضهم جرحه بترك الجمعة، وكانت الجمعة إنما يقيمها الظلمة، فيدعون للظالم في الخطبة ويمدحونه بالكذب، ويأتمون بالظالم فيرفعون بذلك شأنه، ويكون في حضور العلماء صورة التقرير على ذلك كله، فيكون الحضور دعماً للظالم عند العامة وتقوية لجانبه، وتغريراً عليهم، ومعاونة للظالم على ظلمة والله تعالى يقول: ] وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [(2)[58]) فحين يكون الحضور منكراً يكون ذلك عذراً في ترك الجمعة، فتراهم يجرحون بذلك عباد بن يعقوب الرواجني، ويسكتون على ذلك الجرح لتقرير الجرح لحرصهم عليه، ويجرحون به الحسن بن صالح فيغتفر له ذلك. ويجيب بعضهم عن ذلك بأنه، مذهبه لما حرصوا على سلامته من الجرح، وكذا رأيه في الخروج على الظلمة اغتفر.
__________
(1) 57]) هذه الكلمة ليست في الأصل.
(2) 58]) سورة المائدة: الآية 2.(1/70)